لم يكن الموسيقار العظيم "محمد عبد الوهاب" يتخيّل أن هذا الشيخ المعمّم الضرير، يمتلك هذا الصوتَ الجبّار ذا المساحة الصوتية الممتدّة، ويستطيع التلاعُب بالمقامات الموسيقية، فينتقل من مقام إلى آخــر بسلاسة غير معهودة دون خلل أو خلط؛ لذلك لم يتمالك عبد الوهاب حين سمعه ينشِد رائعته "ياسيد الكونَيْن" سوى أن يقول وهو يتمايل مُتسلطِنًا: "يا واد يا واد.. الله الله يا راجل يا جبّار!".
لأسرة صعيدية رقيقة الحال، وُلد مولانا الشيخ محمد عمران، فى طهطا بسوهاج فى العام 1944، وحُرِم نعمة البصر بعد عام واحد من ولادته، وكما جرت العادة قديما التحق بأحد الكتاتيب فأتمّ حفظ القرآن الكريم، ثم سافر إلى القاهرة وهو فى الثانية عشرة من سِنِيه، ليلتحق بعد ذلك بمعهد المكفوفين للموسيقى العربية، وهناك تعلّم المقامات الموسيقية وأتقن بالموهبة الفطرية فنّ الإنشاد الدينى والنغم العربى القديم.
كان الرجل رقيق الحال، وفوق ذلك فقد كان ضريرا، الأمر الذى يجعل فُرصته فى العمل ضعيفة بل معدومة، لكن يبدو أن أحدًا توسّط له ليعمل قارئا فى مسجد شركة (حلوان للمسبوكات)، فكان المسجد محلّ عملٍ وإقامة له، وخالط العُمّال والمهندسين فى الشركة، فأعجبوا بصوته وإنشاده، وكان لهم مصدرًا من مصادر البهجة والسّلطنة فى أوقات الصلوات والراحة.
ابتسم الحظ قليلا لمولانا الشيخ محمد عمران لأنه تعرّف إلى عازف الكمان المشهور، عبده داغر، الذى عرّفه بدوره إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب، فاصطحبه معه ذات ليلة إلى منزل عبد الوهاب، وهناك استمع عبد الوهاب له، وتسلطن من صوته وإنشاده، حتى إنه بعد ذلك قام بالتلحين له، كما لحّن له أيضا سيد مكاوى ومحمد الموجى وغيرهما، ويبدو أن عشق "داغر" للقرآن والأناشيد الدينية كان أساس تمسُّكه بمولانا محمد عمران، فلم يكن يغيب "عمران" ليلة - إلا فيما ندر- عن بيت "داغر" لإحياء ليالٍ فنية موسيقية بديعة يشدو فيها "عمران" بصوته الجبّار ويصاحبه "داغر" بالعزف، ليصنعا بهجة تمتلك نفوس السّمّيعة وتأسر أرواحهم وتسكرها فى الليالى والسهرات؛ فقدّم الثنائى عشرات الأغنيات والمواويل، مثل "حلم" لأم كلثوم، و"يا من هواه أعزه وأذلنى.. كيف السبيل إلى وصالك دلّنى”، "فرح الزمان.. اليوم حان الموعد"، "ناجاك قلبى خاشعا ولسانى”.
كان مولانا "محمد عمران" - ربما - أول من أحيا الأفراح بقراءة القرآن وإنشاد الابتهالات، كما كان أول شيخ أو مُنشِد يعرف الموسيقى الهندية والتركية، بل الغربية، فقد كان بمكتبته الموسيقية الضخمة أسطواناتٌ لبتهوفين، كما كان أول من أنشد الأذان بمقام "الهزام"، وهو مقام يمتاز بالبطء والترسُّل، مما يجعل وقْع الكلمات التى تُنشَد به هادئة تدخل القلوب فى طمأنينة وهدوء، وقد فضّل مولانا "عمران" هذا المقام لأنه سلّم من سلالم مقام "السيكا" الذى تمتاز به الموسيقى الشرقية الرصينة.
حظّ مولانا "محمد عمران" فى الحياة كان قليلا؛ فقبل أن يُتمّ الخمسين من سِنِيه بتسعة أيام توفّاه الله فى العام 1994، فخفتت سيرته تماما، وجهلها كثيرون، ولا ندرى لِمَ تمّ التعتيم على هذا الرجل؟! على الرغم من موهبته الرهيبة فى تلاوة القرآن والإنشاد الدينى، ومن سخرية القدر أن قرار اعتماده فى الإذاعة كقارئ جاء بعد وفاته بنحو عشرين يوما؛ ليُثبت لنا القدر الساخر، فى فصوله الباردة المكرورة، أنّنا نعيش عصر المهرّجين لا عصر الموهوبين!!