مع تحرك نور الفجر الخافت على أرصفة عروس البحر تبدأ رحلته، يعد بذلتين، واحدة للبنك الذى يعمل مديرا فى أحد قطاعته، والأخرى لعشقه الأكبر، بحر الإسكندرية، فوق المركب يرتدى سريعا بذلة الغطس لينفصل عن عالمنا وينطلق نحو عالمه الخاص، المكان الوحيد الذى يجد نفسه بداخله، بين الأمواج يتحرك سريعا وبمسدس صنع خصيصا لتلك المهمة يبدأ صيد الأسماك، ساعات تمر كدقائق قبل أن يخرج ليعود للعالم التقليدى، يرتدى البذلة والكرافتة المهندمان فى رحلة نحو البنك، تمر الساعات هناك كأيام طويلة لا يعرف متى ستنتهى.
كانت هذه رحلة محمد صابر بين البنك والبحر، رحلة كان عليه فى نهايتها أن يختار أحدهما، وبالفعل اختار البحر، ليتحول من مدير بأحد الفروع فى بنك خاص إلى صياد محترف، يصطاد يوميا بمسدس متخصص الأسماك ويبيعها ليتمكن من العيش.
محمد صابر البالغ من العمر 31 عام يؤكد لـ "عين" أن قرار تخليه عن وظيفته بالبنك كان من أصعب القرارات التى اتخذها فى حياته ولكنه بعد فترة تأكد أنه أفضل قرار بعدما تأكد من صحته رغم الصراعات التى واجهته فى رحلة التفكير.
عشق البحر بدأ برحلة صيد عادية بالصنارة وبعدها تذوق متعة الصيد الحقيقية عندما حصل على دورات التدريبية فى الغطس والصيد تحت الماء ورأى العالم الذى كان يبحث عنه طوال السنوات الماضية، فلم يجد وسط الأسماك فى البحر ما يحقد أو ينافق أو يغش الباقيين، ليكتشف فى النهاية أنه يتمنى أن يعيش وسط عالم الأسماك تحت الأمواج أفضل من الحياة وسط مجموعة من الموظفين استطاع الروتين أن يحطم حياتهم ويصيبهم بالأمراض النفسية والجسدية أيضا.
وأضاف "صابر" أنه تقدم باستقالته لمديره مرتين وفوجئ بالرفض لاحتياجه له، فبدأ يأخذ نصيبه من المتعة فى الصيد مع أذان الفجر قبل الذهاب إلى البنك وهو مرتدى البدلة ليمارس هوايته المسيطرة على عقله وبعدها يتوجه لوظيفته ليعيش يومه العملى الروتينى المعتاد، وفور إنتهاءه من عدد ساعات العمل فى البنك يعود مرة أخرى ليبحر فى عالمه الذى اختار أن يعيش فيه.
ويؤكد أنه فى المرة الثالثة دخل على مديره فوجده يتناول أدوية فسأله عن السبب فأخبره أنه دواء الضغط الذى يعانى منه نتيجة الضغوط العملية اليومية المستمرة رغم وصوله لمنصب مدير فرع لأحد البنوك الكبرى، لينظر إلى نفسه ويكتشف أنه مهما تحمل من ضغوطات فى العمل فلم يخرج من دائرة الموظف المطحون وأنه مجرد بائع فى بنك وإذا اجتهد بشدة فيكون مصيره مثل مصير مديره ويصاب بالأمراض المزمنة فقرر حينها تقديم الاستقالة دون التفكير فى العودة إلى وظيفته مرة أخرى وصمم عليها بالفعل.
وانتهى من شخصية الموظف التى عانى منها كثيرا وعانى معه أسرته ليؤكد أن زوجته لم ترفض أن يكون زوجها صياد لعدة أسباب أهمها أنه بدأ يلتفت إليها وللمنزل ولأطفالها فطوال عمله كموظف كان لا يهتم بتفاصيل الأسرة فلم يفعل سوى أنه يذهب إلى العمل ويعود إلى المنزل ليتناول الطعام ويسرق قسطا من الراحة ليصبح فى اليوم التالى يعود إلى روتينه اليومى وهكذا.
أما من الناحية المادية فأشار إلى أن الأموال التى يحصل عليها من الصيد أكثر من 3 أضعاف ما كان يتقاضيه فى البنك ولم تقتصر الأمور المادية على المبلغ فحسب ولكنه يؤكد أن أموال البحر بها بركة بالمقارنة براتب البنك الذى كان يطير فور إمساكه بيده.
وراحته النفسية كان لها نصيب كبير فى اتخاذ القرار فهو يقوم حاليا بما يعشقه واستطاع أن يكسر الروتين الذى كان يموت فيه يوميا بالبطئ، ويؤكد أنه من الأسباب التى جعلته يستريح نفسيا لاتخاذ هذا القرار هو حواره مع أحد الأطباء الذى كان عميل بالبنك والذى تلفظ بكلمات وضعها فى ذهنه ليعيش مرتاح البال وتمثلت فى " لو مرتاحتش فى مكانك غيره انت مش شجرة" و"كام واحد ممكن يشتغل موظف بنك لكن كام واحد يعمل اللى انت بتعمله" وهى الكلمات التى دفعته لعدم التردد فى اتخاذ قراره.
كما أن هناك الكثيرين ظن أنه سيقف على مرحلة الصيد ويظل طوال حياته مجرد صياد ولكنه استطاع أن يثبت للكافة عكس ذلك فالصيد فتح له تطورات مختلفة أبرزها أنه أصبح مدرب صيد ويعطى دورات تدريبية.
ورغم الخطورة التى يواجهها فى البحر بين الأسماك التى يظهر وسطها المتوحش والأمواج وغيرها من العوامل التى قد تصل خطورتها إلى حد الموت إلا أنه لم يتردد فى الأمر مؤكدا أن الكافة سيموتون ولكن هو إذا أصيب أو توفى فى البحر ستكون أعظم موتة من وجهة نظره، فالبحر عالمه الذى عشقه وأصابه الهوس بالحياة فيه فلا يخاف الموت أيضا فيه.