يتعجب البعض من قدرة الفرانين على الوقوف أمام النار دون تعب والفلاحين على العمل تحت أشعة الشمس الحارقة دون كلل وغيرها من المهن التى تحتاج الكثير من الجلد والصبر، ولعل السر وراء ذلك هو ربما اعتياد الوجع والألم فهو الأمر الذى يجعل الطفل إلياس بطل الفيلم اللبنانى القصير "أمى" للمخرج وسيم جعجع، يحتمل كل هذا الألم والوجع والحزن الذى تعرض له ضمن أحداث الفيلم ليساهم بشكل كبير فى حالة نضج تسبق عمره الصغير بسنوات طويلة.
تبدأ أحداث الفيلم القصير "أمى" الذى نال جائزة نجمة الجونة الفضية للفيلم القصير بوفاة والدة إلياس الطفل صاحب الـ9 سنوات فجأة وبدون مقدمات، فيجد نفسه أمام إرث فكرى توارثته الأجيال وهو أن الرجال لا تبكى وهى الجملة التى قالها حنا والد إلياس له "أنت رجال لا تبكى" مؤكدا له أن يسوع يحتاج والدته أكثر منه لذا أخذها إلى جواره.
جملتان حواريتان من واقع الحياة كانت كفيلة أن تضع هذا الطفل البرىء الذى فقد أمه فى موقف لا يحسد عليه فلا يستطيع البكاء ولا يستطيع استعادة أمه من يسوع الذى فضل أن تكون إلى جواره هو لا إلى جوار طفلها إلياس وذلك طبقا لما زرعه الأب فى ولده وطبقا لتعاليم الكنيسة التى تردد دوما أنه على الانسان أن يضحى بكل ما هو عزيز وغالى مثلما قام يسوع الذى ضحى بنفسه من أجل البشرية وهو ما يؤكد عليه الفيلم من خلال التعاليم التى يتلقاها إلياس فى سياق العمل.
ببراءة شديدة يهرع ذلك الطفل ليطلب من يسوع الذى يقف بكل بهاء داخل الكنيسة على هيئة تمثال ليطلب منه أن يعيد له والدته التى اخذها مؤكدا فى حديثه مع يسوع أنه يعى جيدا أن يسوع أخذ والدته لأنه فى حاجة لها أكثر منه مثلما قال له والده، لكن الطفل يصر على أنه يحتاج الأم أكثر من يسوع نفسه من منطلق أن يسوع أكبر سنا وأن إلى جواره تمثال السيدة مريم وبالتالى فهو إلى جوار أمه وربما لا ينقصه شىء أو لا يحتاج أم إلياس لتكون معه.
فيلم أمى لمخرجه وسيم جعجع وأحد من أهم الأفلام الروائية القصيرة التى حققت المعادلة الصعبة، فهو عمل يكسر كل التابوهات والمحاذير ويناقش تعاليم رجال الكنيسة بكل جراءة ربما من المتوقع أن يثير الفيلم الكثير من الجدل خاصة وأن العمل يناقش فكر لطالما أجهض ومنع من الظهور على الشاشة لذا فالفيلم أمامه مهمة صعبة جدا فى تقبله كعمل فنى بين الجمهور، لكنه بكل تأكيد فيلم شجاع لمخرج واعد استطاع أن يستحوذ على حواس المشاهد كاملة أثناء المشاهدة واستطاع أن يصل بجمهوره إلى نتيجة هامة وهى أن التعرض للحزن والألم والوجع واكتشاف الكثير من الحجج لمداواة جرحه، أو ربما يعتبرها مجرد اكاذيب لإلهائه عن الأمر لكنها فى النهاية هى سبب كافى جعل إلياس يصل لحالة من النضج لم يكن ليصلها قبل أن يكتشف أن أغلب ما نتوارثه من أفكار بالية ليست سوى مجرد كذبة ربما أن الأوان أن نتخلص منها وأن نعيد تعاليم الدين إلى مسارها الصحيح.
المميز فى فيلم أمى هو أنه نسج قصة من واقع الحياة ربما هى نفس القصة التى يواجها أى طفل يعانى وجع الفقد خاصة فى امه وهو أمر غاية فى الصعوبة ربما يتحمله الكبار بنفس راضية إنما الأطفال يكون لهم رأى آخر.
قدرة المخرج وسيم جعجع على إدارة الممثلين ربما لا تفرق كثيرا عما يفعله غيره من المخرجين ولكن قدرت على إدارة الطفل إلياس كممثل ودفعه لتقديم كل تلك المشاعر الطفولية البريئة أمر يستحق التوقف عنده فالتعامل مع الأطفال داخل اللوكيشن أمر غاية فى الصعوبة مثله كمثل التعامل مع الحيوانات المستخدمة فى السينما فكلاهما لهما مزاج خاص فى التعامل واحتياجات معينة وتحضيرات مختلفة، إلا أنه حديثا اصبح وجود حيوان داخل اللوكيشن أمر من الممكن الاستغناء عنه والاستعانة بالتطور التكنولوجى الذى يسهل وجود حيوان داخل العمل من خلال المؤثرات البصرية، إلا أنه يظل الطفل هو الأصعب طبقا للشريحة العمرية التى لا تتماشى مع الانضباط الذى يجب أن يكون عليه اللوكيشن أثناء التصوير، لذا قدرة المخرج على استخدام الطفل فى التعبير عما بداخله بكل هذا الزخم من المشاعر والانضباط يؤكد على أن مستقبل الطفل إلياس كممثل ربما بدأ منذ الساعات الاولى لعرض الفيلم وأن مستقبله الفنى سيكون بكل تأكيد مشرق طالما حافظ على صدقه فى التعبير عن المشاعر المكتوبة له بالسيناريو.