ورغم ما عاناه محمد منير خلال الفترة الماضية، سواء من مشاكل صحية، أو من أحزان شخصية، إلا أنه أثبت من خلال هذه الأغنية، والتى تكاد أن تلامس الكمال فى المعنى والمغنى واللحن والأداء، أن الموهبة العظيمة لا تعترف بالتقدم فى السن، وأن "الملك" لا يتقاعد.
ولتوضيح ما أريد قوله، سأسمح لنفسي، بسرد هذه القصة التى حدثت خلال آخر لقاء جمعنى بالملك منذ شهرين تقريبا، عندما زرته فى بيته لتقديم واجب العزاء فى مدير أعماله وابن عمه وزوج أخته محمود أبا اليزيد، لأنى أعرف مدى قرب محمود من الملك، فقد كانت هذه الزيارة ثقيلة بعض الشيء على قلبي، لأنى لا أحب أن أرى من أحبهم فى لحظات ضعف، أو حزن، أو انكسار، ولأول مرة منذ أن عرفت الملك شخصيا فى نهاية تسعينيات القرن الماضي، لم يقابلنى منير بابتسامته الصافية المرسومة دائما على وجهه النيلى النحيل، ولأول مرة لم يستطع القيام لاستقبالى بسبب آلام يعانيها فى العمود الفقرى، حاولت أن أصطنع البهجة للتخفيف عنه، ورغم الجهد الكبير الذى بذله لكى يبدو متماسكا، إلا أن معالم الحزن وتقدم السن كانت واضحة على وجهه، وعندما قلت ما يقال فى مثل هذه المواقف عن مآثر ابن عمه الراحل، فوجئت بالدموع تباغته وتباغتى وتنهمر من عينه، لحظتها انقبض قلبى بشدة، وشعرت بالقلق والخوف على منير ليس فقط باعتباره قيمة فنية كبيرة، ولكن باعتباره قيمة إنسانية كذلك.
بسرعة غيرت مجرى الحوار، وتحدثت عن ما يدور فى العالم، وعن الشأن العام، وتطرق الحديث للمخاطر التى تحيط بمصر وبالمنطقة العربية، وقلت له : "متقلقش على مصر.. البلد دى ممكن تمرض لكنها أبدا لا تموت"، فرد: "عارف ليه أنا مش قلقان على مصر؟؟.. لأن شعبها يختلف عن كل شعوب وكمان جيشها هو الجيش المظبوط.. اسمع الغنوة دى".... فجأة بدأ الملك بغناء "الناس فى بلادي".. وفجأة بدأ شيء غريب يحدث، لو أنك نظرت إليه وهو يغني، لو أنك فقط أحسست بشعوره.. أعنى أنها نفس الحجرة، ونفس الحضور.. لكن لا
لقد قلت فى نفسى: "يا إلهي.. ثمة شيء مهيب يتصاعد فى الغرفة، وهو يعيش بداخله ويتواصل معه، لأول وهلة لم أعرف ما هذه الشيء، لكن الإجابة جاءتنى سريعة مع البريق المتدفق من عينيه.. أنه السمو، سمو الإخلاص والتماهى مع الموهبة والغناء والفن... وفجأة "تحول" محمد منير وعاد إليه ذلك الفتى الأسمر المتمرد القادم من أقصى الجنوب ليقدم تجربة، شديدة التفرد، وفنا خالصا لوجه الوطن والناس.