كم هو صعب أن تجد نفسك فى مكان لا تنتمى إليه مكان لا يشبهك ولا يتماشى مع طموحك مع إمكانياتك، لكنك تُجبر على أن تتواجد به هربا من ذلك الواقع المرير، الذى لم يعترف بك ولا بموهبتك، ولم يعطك الفرصة للإفصاح عما بداخلك، لم يمنحك المساحة لتثبت وجودك، وتكشف للعالم كله مدى قدرتك على إذهاله بموهبتك القوية، ذلك العالم القادر على وأد المواهب ودفنها حية، واستبدالها بشخص آخر لا يستحق الشهرة والثناء، شخص دخيل على عالم الغناء لمجرد مواصفات شكلية سخيفة للنجم، وضعها البشر، وتمسكوا بها على مدار السنوات، فكم هو مؤلم أن تجد شكلك الذى خلقك الله به هو العقبة الوحيدة أمام إيصال صوتك للعالم وإثبات موهبتك، ربما وقتها تكره نفسك وتكره شكلك وتكره النظر فى المرآة، لتجد ذلك الوجه أو الجسد الذى حرمك من الحياة ليسلب صوتك ويضعه على شكل شاب آخر فقط، لكونه يتمتع بالرشاقة والشكل الملائم للنجم، لكنه لا يملك الصوت الذى هو أساس النجومية.
باختصار شديد هذه هى المشاعر التى شعر بها الطفل ميمو فى فيلم Nobody Knows I'm Here أو "15 عاما من العزلة"، وهو ميمو صاحب الموهبة الغنائية الفذة، الذى قام والده بمنح صوته لطفل آخر؛ لأن ميمو لا يمتلك مقومات النجم الشكلية، ليجبر الوالد ابنه على تسجيل الأغانى بصوته، ويقدمها طفل آخر على المسرح يدعى أنجلو؛ لأن لديه شكل وملامح النجم، بينما لا يمتلكها نجله، دون أن يرى فى ذلك نحرا لطفله ولموهبته وتدميرا لنفسيته، ليعيش ميمو وهو يرى نجاحه يتمتع به شخص آخر لا يملك 1% من موهبته، بينما هو يجلس فى صفوف المشاهدين.
لم يجد ميمو سوى الهرب إلى مزرعة للخراف على جزيرة أمام بحيرة حيث يعيش عمه، الذى تفهم الحالة النفسية التى مر بها نجل شقيقه، وجعلته يدخل فى حالة اكتئاب مزمنة يرفض على أثرها الحديث مع أحد، ويعزل نفسه تماما لمدة 15 عاما، لا يجد فيها نفسه إلا عندما يغمض عينيه ويضع السماعات فى أذنه ويرتدى الملابس المزركشة، ويتخيل نفسه أمام الجمهور، يحصد نتيجة موهبته من شهرة ونجومية وثناء، وهى كل ما فقده بأنانية والده، الذى فكر فى المال، ولم يفكر فى قتله موهبة ابنه.
الفيلم يقوم ببطولته خورخى غارسيا وميلارى لوبس ولويس جينكو واليخاندرو جويك وغاستون بولس، ومن إخراج جاسبر انتيلو، والذى نال جائزة أفضل مخرج روائى جديد عن فيلم من مهرجان Tribeca Film Festival للعام الجارى، ويُعرض على نتفليكس، واستطاع خورخى غارسيا أن يعبر عن مشاعر الشخصية بحرفية شديدة، وكأنه عانى مما عانى منه ذلك الطفل بشكل أو بآخر، إضافة إلى أن الموسيقى التصويرية وأغنية الفيلم جاءت معبرة عن حالة الفيلم، وأضافت بشكل كبير قدرة كبيرة، على دمج المشاهد داخل العزلة التى يعيشها البطل، خاصة مع استخدام المخرج لمشاهد الغابات والأشجار والكون الفسيح الذى عاش فيه ميمو، لكنه ضيق يطبق على نفسه، فموهبته والغناء هو العالم الذى يجد فيه براحا يتخلص فيه من وزنه ويطير على الطيور ويحلق دون الالتفات لوزنه ولا شكله الذى لا يراه البعض مناسبا لشكل نجم غنائى.
الفيلم صاحب إيقاع بطىء يشبه الواقع الذى يعيش فيه ميمو، فهو يقوم كل يوم بنفس الروتين الذى اعتاد عليه، لا يتحدث مع أحد سوى كلمات قليلة مع عمه، يرفض الخروج من الجزيرة يأبى أن يراه أحد أو يطلع على موهبته أو يقترب منه فهو يريد أن يعيش آلامه وحيدا بعيد عن البشر ممن خذلوه بتصديقهم لسارق صوته الذى ينعم بالشهرة والمال وحب الجمهور بينما هو يجلس وسط الخراف يعيش حياة هادئة، بينما الصراع الداخلى الذى يعيش فيه ميمو يجعلها حياة متقلبة يتصارع فيها مع نفسه ليلا نهارا.
الفيلم يحمل مشاعر كثيرة مرهقة لنفوس هؤلاء البشر ممن تتحطم سفينة مواهبهم عند صخرة الشكل ولون البشرة والكتلة الجثمانية، وربما مقاس الوسط والخصر، تلك المواصفات الشكلية التى تخطاها الزمن، وأثبت أن الموهبة هى الأساس، وكم من نجوم شهيرة وضعت بصمة على وجدان الملايين لا يتمتعون بشكل النجم الزائف الذى يضعه المنتجون نصب أعينهم، فالساحة العالمية مليئة بالمواهب والنجوم ممن كسروا تلك القاعدة، لكن مع الأسف لا يزال البعض يضع تلك الصفات أمام عينيه أثناء تقييمه للمواهب.