وحدها أهوال الحرب هى التى تسكن الروح وربما لا تغادرها أبدا، إلا بـ"طلوعها" أقصد الروح بالطبع، تلك الأهوال التى لا يستطيع أحد وصفها إلا من عاشها وعاصرها، فمهما وصف البعض شكل الحرب والمشاعر والضغوط التى يعيشها الجندى، فبكل تأكيد الأمر لا يضاهى أبدا بأى حال من الأحوال ما يشعر به الجندى نفسه على الجبهة، فمهما وصفت أو رويت عن قصص الحياة والموت لا يشعر بالمعاناة إلا من عاشها فقط، فهو من يعتصر قلبه ويضيق صدره من أهوالها.
لذا المخرجة أناستازيا بوكوفسكا نجحت فى أن تقدم فيلمها القصير الأوكرانى Bullmastiff أو "بولماستيف" المشارك بمهرجان الجونة بمسابقة الأفلام القصيرة، عن الحرب ولكن من منظور مختلف، منظور إنسانى لا يعتمد فقط على مشاهد القتال والدماء وتناثر الجثث وإنما اعتمد على تبعات تلك الحروب ما تتركه راسخا فى نفوس وقلوب المشاركين فيها، تلك الحروب التى يعود منها الأحياء موتى لا حياة فيهم سوى "أنفاس داخلة وأنفاس خارجة"، ما تتركه الحروب فى نفوس من قضى شهورا من عمره على الجبهة ليس بسهل أبدا ولا ينسى فتظل ومضات مآسيها وجراحها تتناثر أمام عينيك، وربما لا تترك لتنام الليل أو حتى تهنأ بالنهار.
ما يميز فيلم بوكوفسكا هو قدرته على التعبير عن حالة الجندى العائد من الحرب للحياة المدنية الشخص الذى اعتادت أذناه أن تسمع صوت القذائف واعتادت عيناه على لون الدماء، وربما اعتاد هو شخصه أن يفقد من حوله فى غمضة عين ذلك الشخص الذى يدعى "ميتيا"، يحاول بكل الطرق التأقلم والتعايش مع حياة مدنية على النقيض من حياته فى ساحة المعركة، لكنه لا يهنأ أبدا، فمشاهد الحرب لا تزال عالقة فى ذهنه والأشلاء تتناثر أمام عينيه وكأنه لا يزال فى ساحة الحرب.
قدمت أناستازيا بوكوفسكا فيلمها المبنى على قصة حقيقية بالاعتماد على القليل من الحوار وفتح الكادر للكثير من الكلام الذى لا يقال، فأثناء بحث "ميتيا" عن ذاته وعن مخرج من مأزق الماضى، الذى لا يستطيع التخلص منه، اختاره كلب ينتمى لفصيلة Bullmastiff، ليسير خلفه يتشمم أصابعه ليجد فيه رائحة الرفيق وكأن ميتيا والكلب كانا يبحثان عن بعضهما البعض، كل منهما يريد رفقة، يريد قلبا رحيما عطوفا، كل منهما وجد فى الآخر الأمان والحب والعطاء، تلك الصفات التى تتمتع بها الكلاب وتمنحها لصاحبها بلا مقابل وربما تكاد تتلاشى من بعض البشر ممن شوهتهم الحياة والمادة فلا يستطيع أحد منهم أن يكون "كلبا" ولو لمرة واحدة وربما عليه أن يفعلها.
ربما ليس سهلا على الإنسان أن يربى حيوانا أليف لم يكن مستعدا لاستضافته بحياته، لكن "ميتيا" استطاع أن يتألقم سريعا معه، لما لديه من قدرة على التعلم والذكاء، وبعد أن كان يحاول البحث عن صاحب ذلك الكلب قرر أن يقتنيه بعدما استطاع أن يهون عليه الحياة ويكون خير الرفيق، لتفاجئ بوكوفسكا مشاهدى الفيلم بأن الكلب كان لجندى آخر ذاق مرار الحرب لكنه لم يتحمل أهوالها، فأصبح جسدا بلا روح، لكنه تمسك بعودة كلبه الذى ربما لم ينجذب لـ"ميتيا" إلا أنه وجد روحه مشوهة كصاحبه الأصلى؛ بسبب أهوال ما شاهده فى الحرب، ليقرر "ميتيا" تبنّى كلب جديد يدخل على روحه الأمان والحب الذى افتقده بسبب قرارات بشر فضلت الموت عن الحياة، واتخذت قرار الحرب دون التفكير ولو للحظة فى الأهوال التى تأتى نتيجة تبعات تلك الحروب ولا تطيقها النفس البشرية.
أجادت بوكوفسكا تكثيف كل ما تريد طرحه بالفيلم دون مشاهد تدمى القلوب ربما مشاهد قليلة فقط هى ما نرى فيها أهوال الحرب؛ لتقريب الصورة للمشاهد، ممن لا يعرف الكثير عما يعانيه المشارك بها، وبرشاقة فى الأداء استطاع Evgeniy Lamakh أن يعبر عن حالة الجندى العائد من الحرب.