تجاوز تأثير كتاب "ألف ليلة وليلة" الحدود، فهو مقاوم للزمن والمَلل وكل الاتجاهات والمشارب والأهواء والشعوب، هو كتاب للإنسانية جمعاء فمنذ ترجمته إلى الفرنسية على يد أنطوان جالان سنة 1704 تتابع نقله إلى كل لغات العالم ولم تتوقف الترجمة ولا التأثير منذ هذه اللحظة، تأثّر على مبدعي الفكر والأدب والفن والموسيقى والرسم والنحت والمسرح، وأبدعوا بفضله منه أعظم كتاباتهم. ففي فرنسا وحدها على سبيل المثال، فولتير يؤكد: "لم أصبح قاصاً إلا بعد أن قرأت ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة". أما ستندال فقد تمنى أن يصاب بفقد الذاكرة حتى يتسنى له أن يعيد قراءة حكايات ألف ليلة وليلة.
دانييل ديفيو في قصته روبنسون كروزو وبطله فرايدي تأثر برحلات السندباد المأخوذة من ألف ليلة وليلة. كذلك تحولت بعض حكايته إلى أفلام، مثل علاء الدين وعلي بابا ولص بغداد. كما استقى منها الكاتب الإنجليزي العظيم شكسبير مسرحيته العبرة بالخواتيم، والقاص الكبير إدجار ألان بو قصته الليلة الثانية بعد الألف من ليالي شهر زاد، التي ختمها بإعدام الملك شهريار زوجته شهرزاد.
ومن ظلال ألف ليلة وليلة الكثيفة على أدب أمريكا اللاتينية ظهور مدرسة الواقعية السحرية، فهذه كما أقول دائما بضاعتنا ردت إلينا، ذلك المذهب الذي شاع على يد عدد من كتاب أمريكا اللاتينية أمثال جابريل جارسيا ماركيز، وبورخيس الذي كشف صراحة أنه تأثر بذلك الكتاب في قصصه التي تمتليء بالغرائبية واللامعقول والأسطورة.
وجوته الشاعر والروائي الألماني الكبير في روايته آلام فيرتر، فقد جاء فيها هذه العبارات الألف ليليلة إن جاز التعبير في ذلك المقطع: "كانت جدتي تحدثنا عن الجبل الممغنط، وكيف تتفكك السفن التي يشتد دنوها منه، ويتطاير حديدها فيسقط ملاحوها في البحر بين الألواح المتداعية".
وفي الأدب العربي تأثر بها الروائي العظيم صاحب نوبل نجيب محفوظ فقدم رواية ليالي ألف ليلة، وكذلك عميد الأدب العربي طه حسين الذي كتب أحلام شهر زاد، وعميد المسرح العربي توفيق الحكيم الذي ألف مسرحية شهر زاد، والأديب السوداني الكبير الطيب صالح الذي كتب رواية بندر شاه، فلم تترك ألف ليلة وليلة كاتبا ولا مبدعا إلا وصار مفتونا بها.
كان لابد من هذه المقدمة التفصيلية لندرك أهمية العمل الفني الذي نحن بصدد التعرض له وهو مسلسل "ألف ليلة وليلة" والذي اختار صناعه حكاية جودر، وكتاب ألف ليلة وليلة به 586 حكاية، والتي روتها شهرزاد لزوجها الملك شهريار على مدى ألف ليلة وليلة، اختار منها الكاتب القدير أنور عبد المغيث حكاية جودر بن عمر التاجر وأخويه، وأحييه على الاختيار الذكي الموحي، فالاختيار لم يكن عبثيا، ولكنه رهين اللحظة، فالحكيم الشمردل الذي خاف على الكنوز الأربعة التي يملك مفاتحها أن تقع في أيدي الاشرار الذين قد يدمروا البلاد والعباد، فألف اسم من خياله لهذه الكنوز الأربعة وأعطاه قران فلكي وجعل عليه رصد لحماية الكنوز فيتطابق هذا الوصف مع البطل جودر الذي سيحمل قضية شريفة وهي الحفاظ على ألا تقع تلك الكنوز الأربعة في يد الأشرار، وبالمشيئة الإلهية يولد ولد اسمه جودر يحمل نفس الاسم والقران الفلكي، فتنعقد عليه الآمال في استخراج الكنوز ابتداء ثم حمايتها من القوة الشريرة التي تريد أن تحوزها لتفتك بالعالم.
إذن جودر هو مخلص ومنقذ وبطل شعبي، هذا ليس حرقا للأحداث فقصص ألف ليلة وليلة متاحة للجميع، لكن ما هو ليس متاحا، كيف سيتم تناولها، شاهدت الحلقتين الأولى والثانية، واستطيع أن اقول أن هذا أول تناول قوي وفلسفي لقصة من قصص ألف ليلة وليلة، حيث توفرت الامكانيات الضخمة والرؤية لتحقيق المغزى من الحكاية، وأؤكد على الروية قبل الامكانيات، فالحكاية ليست مجرد حدوتة فارغة للتسلية، لكنها حكاية معلمة وملهمة وعلاجية، فشهرزاد تعالج بحكايتها شهريار المعقد من المرأة والذي يرغب في الانتقام منها جراء ما حدث له من زوجته الأولى، لتصير شهرزاد أشهر معالجة نفسية، فهي تعالج بالقصة، وبالمناسبة اصبح العلاج بالقصة أسلوب علاج نفسي معروف ومتبع الآن،.
ايضا القصة التي تحكيها شهرزاد ذات مغزى وتنتصر لقيم العدل والمساواة وتنتصر للمرأة المقهورة التي تساق لسيف مسرور دون جريرة ارتكبتها، وهذا يجعلني استعير مقولة الناقد جون جو لميير "شخصية شهرزاد قد أثّرت تأثيراً حاسماً في تاريخ المرأة الأوروبية، وجعلت القرن الثامن عشر أعظم القرون في حياتها. إذ كان لجمالها وثقتها بنفسها، وتصديها وحدها لشهريار الذي عجز كل الرجال عن إيقافه، واستخدامها لسلاح الأنوثة والمعرفة معاً، كان لهذا كله أثر كبير في تكوين شخصية المرأة الأوروبية".
في مسلسل "جودر" اختار صناعه أن تكون العامية لغة الحكي وهذا اختيار موفق، اولا ليكسب الحكاية طزاجة ومعاصرة تجعل المشاهد يستشعر أن القضية التي يطرحها المسلسل ليست بعيدة عنه، وإنما هي إسقاط على ما يحدث الآن من محاولة قوى الشر السيطرة على العالم وتدميره، كما أن العامية المصرية في بعض الأحيان اعتبر وجوب حضورها في الدراما التاريخية مسألة أمن قومي، لذلك سعدت باختيار العامية كلهجة للحكي الدرامي، خاصة وأن "ألف ليلة وليلة" حكايات شعبية تفرز بطلا شعبيا يحمل قضية شريفة، وإن كان لا يغفل دور المرأة، فهي سبب الحكاية والأزمة ومفتاح اللغز والحل في النهاية، فشهريار أزّمته امرأة وعالجته امرأة.
استطاع المخرج إسلام خيري أن يقدم مستوى فني وبصري ممتع للغاية للحكاية، واعتبر أن هذا هو التحدي الأكبر، فدائما القصص من نوعية ألف ليلة وليلة ستعاد وتكرر على مدى الزمن صور تقديمها الدرامية، لذلك لابد في كل نسخة تظهر على الشاشة أن يكون هناك إضافة، ووضع خيري إضافة كبيرة بمساعدة إنتاج ضخم من المتحدة وميديا هب وأروما، وبرع ياسر جلال في تقديم شخصية الرجل المهزوم الذي يعاني من العقدة النفسية القديمة والفراغ واتضح ذلك في مشهد المبارزة، وفاجأتني ياسمين رئيس في دور شهرزاد والعظيم رشوان توفيق في دور الحكيم الشمردل، وآيتن عامر وعبد العزيز مخيون ومحمد التاجي ونور في دورها المميز ومحمود البزاوي، وأحمد فتحي في دور مسرور السياف الذي صنع له نكهة خاصة. ولا أستطيع أن أخفي إعجابي الشديد بما قدمه مهندس الديكور أحمد فايز، وأزياء منى التونسي الرائعة، كذلك موسيقى شادي مؤنس وعزيز الشافعي ما أجملها، ومونتاج رحيب عويلي السلس، وتصوير تيمور تيمور الناعم، لولاهم لما صار هذا العمل البديع ألف ليلة وليلة مكتملا، لذا وجب علي أن أقدم لهم الف تحية وتحية.
أجمل ما في مسلسل "جودر" هو إنه أعاد البهاء للدراما المصرية، وخلق لدى جيلنا نوع من النوستالجيا لأيام ألف ليلة وليلة التي تربينا عليها، وجعل هناك فرصة للجيل الحالي أن يعرف عنها، وعن أن أجدادهم وأسلافهم أول من قدموا الحكاية الخيالية والغرائبية والتشويقية قبل أفلام هوليوود التي يعشقونها ويدركوا أن بدء الحكاية جاءت من عندنا العرب، وتأثر بها الكتاب وصناع الدراما والسينما الهوليودية والبوليودية، وأن أول من أنطق الحيوان والجان والطير والشجر والحجر في القصص كانت القصص والدراما العربية، فألف ليلة وليلة نص متعدد الألسنة الكل فيه يحكي الحي والجماد، وأيضا أسلوب الحكاية داخل الحكاية الذي صار يعرف بأسلوب القصة داخل القصة من الأساليب السردية الحديثة.
وفي الدراما الحديثة هناك قفلة الحلقة بطريقة مشوقة أو النهايات حابسة الأنفاس cliff- hanger أول من صنعته من قرون امرأة عربية تدعى شهر زاد، المعنى الحالي ل كليف هنجر هو أن الحلقة تتوقف عند نقطة مشوقة ليتم استكمالها في الليلة أو الحلقة التالية، لاستبقاء الجمهور والمحافظة على متابعته للمسلسل، لكن شهر زاد صنعتها لسبب أقوى دراميا وهو أن تنقذ روحها وروح كل النساء المقهورات.