محمد عبد الرحمن يكتب: «رفعت عيني للسما» بين مقاومة الواقع ورهافة الحلم

الناقد محمد عبد الرحمن الناقد محمد عبد الرحمن
 

"لا تجزع، فقد ينفتح الباب ذات يوم… تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة"، هكذا قال الأديب العالمي نجيب محفوظ في روايته الشهيرة «الحرافيش»، مُعبّرًا عن الأهداف النبيلة وطموحات المرء في تحقيق أمانيه، وكتحية لكل شخص يسعى لتحقيق حلمه مهما كان صعبًا أو مستحيلًا في مواجهة تحديات الحياة.

 

من هذا المنطلق يمكننا النظر إلى الفيلم الوثائقي «رفعت عيني للسما» من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير، والفائز بـ جائزة العين الذهبية في مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي 2024، والذي يدور حول مجموعة من الفتيات يؤسِّسن فرقة مسرحية، ويعرضن مسرحياتهن المستوحاة من الفلكلور الشعبي الصعيدي في شوارع قريتهن الصغيرة، مسلّطًا الضوء على الصعوبات والتحديات التي واجهنها في مجتمع محافظ بطبعه، منغلق في فكره، وهو ما يزيد من صعوبة تحقيق هؤلاء الفتيات لحلمهن باحتراف الفن.

 

الفيلم من العتبة الأولى/ العنوان - يضع المتلقي في دائرة من التساؤلات والتصورات لما سوف يراه من عوالم حقيقية، ولحظات صادقة، ومشاعر حيوية نابضة بحبّ الفن والحياة، وربما استلهم مخرجا العمل، ندى وأيمن، عنوان الفيلم من الآية الإنجلية: «إِلَيْكَ رَفَعْتُ عَيْنَيَّ، يَا سَاكِنًا فِي السَّمَاوَاتِ» في إشارة إلى طموح تلك الفتيات وصدقهن وحلمهن، لتكون هذه الآية - التي جاءت في الكتاب المقدس - منطلقًا لطموح فتيات حلمن بالوصول بفنّهن إلى الناس بطموحٍ ملائكي.

 

العمل منذ اللحظة الأولى، لم يلجأ إلى الصور النمطية عن الصعيد، والتمثيلات المتعددة عن الجنوب على الشاشات، جاء «رفعت عيني للسما» في محاولة لكسر القوالب الكلاسيكية من جذورها، مقدمًا صورة أكثر صدقًا وعمقًا عن عالم لم يتم التعمق في تفاصيله والدخول في عوالمه بهذا القرب وبهذه الألفة من قبل، هكذا جاء الفيلم كتجربة سينمائية مدهشة، مليئة بالعوالم والحيوات، مجسدًا رحلة إنسانية وفنية كاملة يشعر فيها المتلقي عند الانتهاء منها، وكأنه خرج لتوّه من سفرية دافئة ومبهجة التفاصيل والمشاعر.

 

الميزة في «رفعت عيني للسما» أنه لم يقدّم الصعيد مسرحًا للتجارب الفلسفية المفتعلة، ولا وعاءً جاهزًا للصور الكاريكاتورية التي تكرّرها الدراما، ولم يحاول أن يفلسف الصورة أو يتعمّق بشكل مبالغ فيه في تفاصيل حياة فتيات البرشا، بل قدّم حياتهنّ كما هي، مصوّرًا واقع بنات فرقة بانوراما البرشا كما هُنّ؛ من أحلام وانكسارات وضحكات خجولة، حياة لا تحتاج إلى تجميل ولا تشويه؛ فتيات يتلمّسن خطواتهن الأولى في الفنّ والغناء والتمثيل، وسط بيئة تقليدية لكنها ليست مغلقة كما نتخيّل في صورتنا النمطية عن الجنوب وأهله، بل تنفتح على عالم جديد بخطوات بطيئة لكنها صادقة.

 

فأهل الصعيد غالبًا متّهمون بالمنع أو التشدد، لكن الفيلم نجح في أن يُظهِرهم بصورة أكثر دعمًا وتفهّمًا وتقدّمًا مما اعتدنا عليه؛ دعمهم لبناتهم ورغبتهم في تشجيع مواهبهن منح الفيلم قلبًا حقيقيًا، وأزال كثيرًا من الأحكام المسبقة التي تلاحق البيئات الريفية.

 

نجحت ندى رياض وأيمن الأمير طوال مدة الفيلم في تقديم عوالم ولحظات مؤثرة تجسّد قصة فتيات البرشا، وكان لنقل مشاهد يومية حقيقية تأثيرًا واضحًا في وصولها إلى المتلقي وتفاعله معها، وكأنه جزء من الحدث لا مجرد متفرّج، فالفيلم لا يبحث عن إثارة زائفة، ولا يفرض خطابًا اجتماعيًا مباشرًا، بل يترك الحكايات تنمو وحدها، وهذا ما جعله فيلمًا مصريًا جدًا—مصريًا في صدقه، في دفئه، في طريقته الهادئة التي تخاطب القلب قبل العقل. ونجح في خلق تعاطف حقيقي مع بطلاته، لدرجة أن المتلقي خرج من قاعة العرض يتساءل: «هما عملوا إيه بعد كده؟» هكذا تحوّل الفيلم من مجرد سردية سينمائية عن حياة فرقة هواة، إلى منطقة صادقة أثّرت في نفوس المشاهدين.

 

ندى رياض وأيمن الأمير، في تقديم سرديتهما السينمائية، خرجا عن القالب التقليدي لهذه النوعية من الأفلام، مبتعدين عن الحوارات المباشرة التقليدية مع الشخصيات؛ فلم نرَ الفتيات يجلسن ويتحدثن إلى الكاميرا مجيباتٍ عن أسئلة المخرجين. على العكس، وضعتنا الكاميرا في عوالم الفتيات متفاعلين ومشاركين، متجوّلين مع البطلات في عيشهن اليومي؛ كمكان عمل ماجدة مثلًا في بيع منتجات البقالة، حيث تستعرض الكاميرا الشدّ والجذب في حوارها مع أخيها الساخر من شغفها بالمسرح، الذي لا يتوقف عن محاولة ثنيها عن هذا الطريق. هكذا تستدعي هذه الحميمية في «رفعت عيني للسما» الاعتماد، أغلب الوقت، على مصادر الإضاءة الطبيعية التي لا تجرح تجربة المعايشة أثناء مشاهدة الفيلم.

 

كادرات ندى وأيمن كانت عشوائية في بعض الأحيان، ومهتزّة في تصويرها لعالم تلك الفتيات، وكأنها صورة حيّة أو عين ترى تلك العوالم وتراقبها، فنجدها معهنّ في صومعتهنّ الفنية، حيث يجرين البروفات ويحضرن الفقرات، هناك يتآلفن مع الحيوانات، مع الطبيعة، يؤدّين تمارين التنفّس، ويتشاركن المزاح والسخرية من النظرات اللائمة التي يصادفنها ليل نهار.

 

في النهاية، صنعَت ندى رياض وأيمن الأمير تجربةً سينمائية رائعة تستحق الإشادة، وصورة تستحق التأمل أيضًا، واستطاعا أن يخلقا عالمًا كاملًا فيه من الرقة ما يشبه دفاتر الذكريات، ومن البساطة ما يجعلك تشعر أنك واحد من أهل القرية، أسلوبهما في المتابعة اليومية للبنات، وفي ملاحظة التفاصيل الصغيرة، خلق جسرًا إنسانيًا بين المتفرّج والشخصيات، جسرًا يعبره الجميع دون مقاومة.

 

واختُتِم العملُ ببداية رحلة تستكمل حلم الرحلة القديمة، ربما في دلالة تؤكّد أن شغف الفن لا ينتهي؛ مقدّمًا إلى جيل جديد من الأطفال والشابات في «البرشا» يكملون ما بدأته أولى الفِرَق. كأن الفيلم لا يَسجّل لحظة، بل يَسجّل حركة زمنية حيّة. الفن هنا ليس هواية عابرة، بل نداهة لها سحرُها الخاص، تستمر عبر الأجيال وتفتح مسارات غير مألوفة في بيئات محافظة.

 


اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر