هناك أغنيات لا تُكتب فحسب، بل تُولد من رحم الذاكرة والحنين، تمشي على حبل الوجدان، وتتسلل إلى القلب كأنها كتبت خصيصًا لكل بني آدم بمفرده، وأغنية "مولود سنة 80" هي واحدة من هذه الأغنيات النادرة، التي تحمل من صدق التجربة وحرارة الاعتراف، ما يجعلها أشبه بسيرة شعرية مختزلة لجيل كامل.
الكلمات كتبها الشاعر حازم ويفي الذي صنع الدهشة على الورق دون أن يرفع صوته ليوقظ فينا ما حسبنا أننا نسيناه، فهو يتعامل مع "الكلمة" ليست كزينة في الغنوة، بل كبطلة، كعمود فقري وضمير حي، وأما استمعتُ إليها لأول مرة بالمصادفة، حينما نشرها صديقي الشاعر حازم ويفي على السوشيال ميديا، ورغم أنها قُدمت في ألبوم حمزة نمرة عام 2020، إلا أن وقعها في أذني كان وكأنها خرجت في اللحظة ذاتها، وشعرت أنني أسمع سيرتي، سيرة جيلي، نحن أبناء الثمانينات الذين نحمل في صدورنا خليطًا من الخوف والأمل، التمرد والامتثال، البراءة والمكابرة.

الشاعر حازم ويفي
منذ الشطر الأول في الأغنية " تتفك اللعبة مني.. وأرجع أصلحها تاني"، نعرف أننا لسنا أمام غنوة تقليدية، فالكلمة هنا ليست وصفًا لحالة عاطفية، بل أداة فلسفية، تُفكك تجربة الحياة وتُعيد تركيبها، وحازم ويفي لا يكتب من علٍ، بل يهبط إلى قلب التجربة، يتحدث بلسان من عاش وخاب، من خاض وغامر، من نظر إلى ساعته يوماً وسألها بمرارة: " أبص لساعتي.. تقول انت مين؟"
فهذه ليست أغنية فقط، بل مونولوج داخلي، حديث إنسان مع ظله، مع ساعته البيولوجية، مع وعيه العالق بين زمنين: زمن الطفولة الذي لم يغادره بعد، وزمن النضج المفروض عليه دون إنذار، ونوستالجيا الثمانينات ليست حنينًا ساذجًا بل وعيًا ناضجًا، والحنين في هذه الأغنية ليس مجرد نزعة عاطفية، بل تأمل وجودي في ما مرّ، في التحولات التي عصفت بجيل تربى علي أفلام الأبيض والأسود، وبرامج التليفزيون المصري الهادفة، وأجهزة "الأتاري"، ولكنه فجأة شبّ في عالم يتغير أسرع مما يحتمل، وكأن الأغنية تحكي عن أولئك الذين ظلوا طوال أعمارهم "يصلحون اللعبة"، دون أن يتسع الوقت للعب فعلاً.
حمزة نمرة، بصوته الشجي الذي يحمل ملامح المثقف الحالم، كان خيارًا مثاليًا لهذه الكلمات، لم يغنِّها فحسب، بل حملها كأنها مرآته الشخصية، وكأن حازم ويفي كتبها له خاصة، فحمزة لا يصرخ، لا يعلو، بل يتكلم بنبرة من يعرف أن الصمت أحيانًا أبلغ من الغناء، وجعل المستمع يشعر أن الغنوة ليست موجّهة للجمهور، بل لداخل كل واحد فينا، أما التوزيع الموسيقي الذي أبدعه كريم عبد الوهاب، فجاء خافتًا، ناعمًا، يشبه موج الذكرى، لا صخب فيه، بل طيات موسيقية تنسج إحساسًا منسجمًا مع اللغة، لا يُغرقها، بل يُضيء زواياها الخفية، والتوزيع هنا لا يبحث عن نجوميته، بل يخدم الفكرة ويُصغي للنص.
"عديت بحاجات تشيب.. ومشاهد عايشة فيا .. وفضلت بريء وطيب.. حياتي دي مسرحية.. "
توقفت كثيرا وتأملت هذه الجملة، فهي من أجمل الجمل التي اعجبتني في الاغنية لأنها جملة درامية، من الممكن أن يصنع منها سيناريست مسلسلا أو فيلما، فالشاعر هنا لا يتقمص دور البطل الخارق، بل يعترف بتعبه، بسقوطه، بمراراته التي لم تحوّله إلى نسخة مكسورة، والأغنية تحتفي بالضعف البشري، لكنها في الوقت نفسه تؤمن ببطولة الاستمرار.
" مولود سنة 80 " هي أغنية عن جيل لم يختر معاركه، لكنه خاضها كلها، عن إنسان وُلد في زمن التحول، فظل يحاول أن يحتفظ بروحه وسط دوامات "الزحام" ، هذه الأغنية أدهشتني لأنها ببساطة صادقة، ولا تصطنع الحزن، ولا تبتذل الأمل، لكنها تكتب الحياة كما هي، بدون زخرف ولا ادّعاء، وحازم ويفي لم يكتب أغنية، بل ترك أثرًا، بلاغة ممزوجة بوجع، ودفترًا مفتوحًا لو أراد كل واحد فينا أن يكتب اسمه على غلافه.
تحية لحازم ويفي، الذي يؤمن أن للكلمة وزنًا، وأثرًا، وروحًا، وتحية لحمزة نمرة، الذي أعاد للغناء دوره التأملي والإنساني، وتحية لكريم عبد الوهاب، الذي أثبت أن الموسيقى لا تصنع المجد إلا حين تحترم النص.
"مولود سنة 80" ليست مجرد غنوة .. بل مرآة جيل، وسيرة شاعر، وصوت حياة.