جمال عبد الناصر يكتب : من ضحكة الأراجوز إلى صرخة غزة.. ربط البهجة بالمقاومة

مهرجان الأراجوز المصري مهرجان الأراجوز المصري
 
في زمن يتقاطع فيه الوعي بالتراث مع الحاجة الملحّة إلى استثماره، وفي لحظة عربية مثقلة بجراح الاحتلال وأسئلة الهوية، يضيء "مهرجان الأراجوز المصري" شموعه في دورته الرابعة، بقيادة مؤسسه ومفكره د. نبيل بهجت، ليعلن من بيت السناري بالقاهرة أن الفنون الشعبية لم تكن يومًا زينة للماضي، بل ذخيرة حية لمواجهة الحاضر وصناعة المستقبل.
 
وفي لفتة إنسانية بليغة، أهدى مهرجان الأراجوز المصري دورته الرابعة إلى روح الطفلة الفلسطينية هند رجب، التي واجهت ببراءتها العزلاء آلة القتل المدججة، في لحظة تختزل وحشية الإبادة وبطولة الصمت النبيل، ولم يكن الإهداء مجرد تضامن رمزي، بل إعلانًا بأن الحكاية – حين تُروى بصدق – تصبح موقفًا، وأن فن الأراجوز، الذي طالما واجه الظلم بالسخرية، لا ينفصل عن قضايا العدالة والحرية، وهكذا، كما فضح "الديك الغادر" طغيان الزيف على الخشبة، فضحت الطفلة هند صمت العالم بألمها، مؤكدة أن المقاومة تبدأ بالحكاية، وتُستكمل بالفعل.
 
العرض المسرحي "الديك الهادر الغادر" تأليف المسرحي الكبير متعدد المواهب غنام غنام فقدّم أنموذجًا فرجويًا بديعًا، يستلهم السخرية الشعبية لتفكيك بنية الاستعمار، حيث تتجسد السلطة في ديك مخادع يتحكم بالناس بالكذب والخداع، حتى تنهض الجماعة، الأطفال في هذه الحالة، لتكشفه وتقاومه، فقد قدم لنا العرض صيغة مسرحية تربط المتلقي بالفعل المقاوم، وتربّي الحس النقدي والقدرة على الفضح والانحياز.
 
يأتي المهرجان هذا العام تحت عنوان بالغ الذكاء والدلالة "اقتصاديات التراث"، متخذًا من الأراجوز نموذجًا لفن شعبي لم ينكسر رغم محاولات التهميش، بل ظلّ يطلّ من الظلّ بروح الحكمة الساخرة، وهو العنوان ذاته الذي اشتبكت معه ندوة الافتتاح، حيث طُرحت أوراق علمية عميقة ناقشت كيف يمكن للتراث أن يتحول من رمز إلى مورد، من ذاكرة إلى مشروع، في إطار رؤية تنموية مستدامة.
 
ولأن الفكر لا ينفصل عن الفعل، جاءت أيام المهرجان لتُجسّد هذه الرؤية في عروض حية وورش وندوات، كان أبرزها فعالية اتخذت شعار: "التراث مقاومة"، لتربط بين فعل الحكي وفعل التحرر، بين الأغنية الشعبية والسلاح، بين الأراجوز والميدان، فالموسيقى جزءًا من معركة الكرامة، تواكب الحروب والتحولات وتغني للانتصار كما للرثاء، واستحضار السير الشعبية بوصفها آلية جمعية لخلق الأبطال وتحفيز الإرادة.
 
الأراجوز يستعيد هيبته القديمة لا بوصفه لعبة خشبية، بل كائنًا حيًا يواجه الزمن، يُضحك ويُفكّر، يروي ويحاكم، والعروض الشعبية المرتجلة، تحدث تفاعلا جماهيريا حقيقيا، والورشة التعريفية تعيد ربط الأطفال بجذورهم.
 
مهرجان الأراجوز المصري ليس فقط احتفالًا بفن منسي، بل هو مشروع ثقافي متكامل، يحمل في طياته منظورًا معرفيًا جديدًا عن التراث بوصفه اقتصادًا ومقاومة، كما أنه تذكير أن في الحكاية الشعبية بذورًا للكرامة، وفي الأراجوز حكيمًا ساخرًا لا يخشى الطغاة، وفي الثقافة العربية مادة خام قادرة على أن تكون سلعة راقية، وقوة ناعمة، ورافدًا اقتصاديًا – إن أُحسن توظيفها.
 
وهكذا، لم يكن المهرجان مجرد فعالية فنية، بل صرخة ثقافية تقول: لدينا ما نستطيع أن نعبّر به عن أنفسنا، وأن نحيا به، وأن نقاوم.
 
 

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر