جمال عبد الناصر يكتب : هل أنصفت الدراما المثقف؟

جمال عبد الناصر ومحمود مرسى جمال عبد الناصر ومحمود مرسى
 
تشكل صورة المثقف في الدراما المصرية مبحثًا نقديًا مهمًا لما لها من انعكاسات على فهم التحولات الاجتماعية والسياسية التي مرت بها مصر منذ منتصف القرن العشرين، وشخصية "السيد أبو العلا البشري"، كما صاغها الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة تعد واحدة من أصدق تمثيلات معاناة المثقف العربي الذي يعيش بين طموحاته المبدئية وواقع الانهيارات المجتمعية المتسارعة، فكيف قدم (عكاشة ) شخصية أبو العلا بوصفها تجسيدًا للمثقف الحالم والمغترب؟، مستلهمًا بعض ملامحها من نماذج عالمية كـ "دون كيشوت"، وغيره، ونرصد كذلك تطورهذه الشخصية في ظل سياقات اجتماعية وزمنية مختلفة، وكيف انعكس فكرها الاشتراكي في زمن الانفتاح الاقتصادي؟ 
 
من هو المثقف ؟ 
 
بتتبع مصطلح المثقف بدءًا من نشأته وتطوره عبر السنين، نجد أن تعريفه اختلف باختلاف تطور الفكر الاجتماعي، وظهر مصطلح  "  Intellectual " في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكان المقصود بالمصطلح المشتغلين بمجالي الفكر والأدب، الذين اتخذوا موفقا من الشأن العام في فرنسا آنذاك، ثم تطور المصطلح وأصبح يستخدم لتوصيف "إيميل زولا"، وهو روائي، وناقد، وناشط سياسي فرنسي، وبدأ المصطلح ينتشر في روسيا وبقية أوروبا، وأصبح المقصود به رافضي الأوضاع القائمة ونقاد السلطة وبمرور الوقت أصبح مصطلح المثقف يشكل فئة معينة، ويختلف في معناه عن المفكر، والمبدع، والخبير والمتعلم.
 
 أما عن المصطلح في العربية (المثقف) فهو مجرد تعريب للمصطلح الأجنبي وأصله في اللغة العربية (ثقيف)، وهي اسم قبيلة اشتهرت بصناعة السيوف وصفها وتهذيبها، ثم انتقل المصطلح إلى لسان العرب ليطلق كتابة عن الشخص المهذب، وتغير معنى المصطلح وانتقل إلى دلالاته الحالية دون أن يتطور كما حدث في المصطلح الأجنبي، وفي معجم محيط المحيط للبستاني نجد أن (مثقف) من ثقف، ويقصد بها رجلا متعلما له معرفة وصاحب (ثقافة)، وارتبط المصطلح في العربية بالصورة الشائعة عن المثقف بأنه شخص متعلم ذو معرفة.
 
وهناك تعريفات كثيرة من أهمها : مفهوم المثقف الملتزم عند جان بول سارتر: المثقف الملتزم هو الشخص الذي يتدخل في الشؤون التي لا تخصه بشكل مباشر بصفته متخصصًا في مجال معين، وبمعنى آخر، يتجاوز المثقف حدود تخصصه الأكاديمي أو المهني لينخرط في القضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي تهم المجتمع ككل، ويرى سارتر أنه لا توجد مهنة اسمها "المثقف"، بل هو دور يمارسه الأفراد عندما يتجاوزون حدود تخصصهم للاهتمام بالشأن العام.
صورة المثقف في الفن .. 
 
حين نسمع كلمة مثقف، يتبادر لأذهاننا صورة شخص بشعر طويل ولحية غير مهذبة ويرتدي قبعة، يحتسي القهوة وهو يقرأ كتابًا، يرتدي نظارة بينما ملابسه غير أنيقة ولا متناسقة، وهذه الصورة التي تكرّست في ذهن الناس عن المثقف، وأصبحت صورة نمطية له، أو كما تسمى بالإنجليزية Stereotype ، وقدمت الدراما العديد من نماذج المثقفين في المجتمع، وحاولت رصد هذا المثقف وشخصيته ودوره في المجتمع، وغلب على هذه المحاولات التصوير الكاريكاتيري الساخر الذي ينتقد نموذج المثقف كثير الكلام قليل الفعل، أوالمثقف السلبي المتخندق خلف شعاراته، البعيد عن إمكانية التغييرعلى أرض الواقع، فضلاً عن تجارب أظهرت شخصية المثقف المحاصر المضطهد من محيطه، وإذا كان السؤال حول مدى إنصاف هذا العمل أو ذاك للمثقف سؤالاً مشروعاً، فإن الإجابة عليه رهينة بفهمنا لواقع المثقفين في المجتمع من جهة، ولمفهوم الإنصاف الذي يفترض في الدراما أن تقدمه من جهة أخرى.
 
والسؤال هنا : هل ما قدمته الأعمال الدرامية للمثقف يتطابق بشكل كبير مع أوضاع المثقفين ونماذجهم في المجتمع المصري والعربي ، فنموذج المثقف الذي يعيش عالة على الآخرين ولا يقوم بأي عمل إبداعي حقيقي، أو تقديم خطاب مغاير ومؤثر في المجتمع هو نموذج شائع فيما يعرف بالأوساط الثقافية، وكذلك نموذج مثقف الشعارات الذي يكتفي بتكرارها صباح مساء دون الانتقال إلى حيز الفعل الاجتماعي، فهو أيضاً نموذج شائع في المجتمع.
 
كانت السينما وما زالت تميل إلى توظيف عدد من الشخصيات النمطية في الأفلام التي تقدمها، سواء كانت شخصيات تراجيدية أو كوميدية، لكن شخصية المثقف باسمه وصفته لم تكن موجودة بشكل صريح، بل كانت تتجلى في نموذج الشاب أو الطالب الجامعي الذي يكمل تعليمه ويكون الوحيد بين الشخصيات الدرامية في الفيلم في بيئته المحيطة الذي يكمل تعليمه الجامعي - ويتعامل معه الجميع بتقدير وإجلال بوصفه الشخص الواعي الذي يسعى الكل لاستشارته والذي يعد قدوة في نظرهم، ونذكر هذه الشخصيات في أفلام: العزيمة (۱۹۳۹)، الدكتور (۱۹۳۹) ، حياة الظلام ( ۱۹٤٠ ) ، أولاد الفقراء (۱۹۹۲) ، الأفوكاتو مديحة ( ١٩٥٠)، وعلى جانب آخر فإن نموذج الطالب الجامعي المنتمي للطبقة البرجوازية غالبًا ما كان يصور كشاب مستهتر ينهي تعليمه ولا يهتم بعدها بالعمل أو أن يكون مصدر فخر لمن حوله، هذه الشخصية جسدت في أفلام مثل العزيمة (۱۹۳۹)، وهو ما يؤكد أن نموذج المثقف ارتبط بالشاب المتعلم الجاد في حياته الذي يملك هدفًا ويسعى لتحقيقه، وإلى جانب هذه الشخصية تندرج أيضًا شخصية الكاتب أو الأديب تحت الفئة النمطية للمثقف، وكان حضورها محدودا وغير مؤثر وتترسخ عنه صورة ما سيمتد أثرها لفترة طويلة، وهي أنه شخصية غارقة في عزلتها ومنفصلة عن المجتمع ومتوحدة مع الكتب والكتابة، مثل شخصية يوسف في فيلم ليلى بنت المدارس (١٩٤١). 
 
المثقف بعد ما نكسة 1967 : 
وقع حرب ۱۹٦٧م ، والتي عرفت بالنكسة كان شديد الوطأة على المجتمع المصري وعلى الشعوب العربية أيضًا، فقد غلب اليأس والإحباط على الشعب وتأثر المثقفون جدا، وظهرت في السينما صورة المثقف المأزوم والمضطرب بعد النكسة في أفلام يوسف شاهين مثل : الاختيار (۱۹۷۱)، عودة الابن الضال ( ١٩٧٦) ، العصفور (١٩٧٤)، وشخصية المثقف في أفلام يوسف شاهين كانت تعرية لواقع الحال والبحث عن المسئولية التي أدت إلى ضياع الأرض وتفسخ المثقفين ذاتيا، وهنا يدرك المثقف أن المرحلة الماضية جعلته عاجزا وتسببت في تحجيم دوره وهدم آماله تجاه المجتمع، وعليه كان المثقف في هذه الأفلام أيضًا مهزومًا حتى على مستوى علاقاته الشخصية كنوع من الإسقاط والرمزية لأثر النكسة على المواطن المصري.
 
المثقف في السبعينات : 
ظهر في السبعينيات ما عرف باسم تيار أفلام مراكز القوى، وتهدف موضوعات هذه الأفلام إلى إدانة مراكز القوى السياسية في عهد عبد الناصر في تجاوزاتها وممارساتها ضد المثقفين من معارضي الدولة بالتهديد والاعتقال والتعذيب وتلفيق التهم وخلافه، في محاولة لدعم اعتقالات السادات لرموز مراكز القوى، وفي عدد من هذه الأفلام ظهرت حقيقة ما كان يتعرض له المثقفون والمعارضون من اضطهاد في العهد الناصري، ونذكر منها شخصيات المثقفين المنتهكين في السجون في أفلام إحنا بتوع الأوتوبيس (۱۹۷۱)، الهارب (۱۹۷۹)، الكرنك (۱۹۷۵)، زائر الفجر (۱۹۷۵) ، وراء الشمس (۱۹۷۸)، العرافة (۱۹۸۱).
 
في كل هذه الأفلام كانت تسعى المعالجات الدرامية إلى تسليط الضوء على ما جرى للمثقف والمعارض السياسي، وكيف حوله القمع إلى مجرد ظل رجل مهزوز، لم يعد يميز حدوده في المجتمع، ولم يعد له قدرة على فعل أي شيء وقد فقد انتماءه، وفي عهد الرئيس محمد أنور السادات ازدادت الفجوة بين مؤسسات الدولة الثقافية والمثقفين، وخاصة في أعقاب حرب أكتوبر وبداية حديث السادات عن مبادرة السلام ثم زيارته للقدس عام ۱۹۷۷ والتي انتهت باتفاقية كامب ديفيد مما أثار غضب العديد من المثقفين الذين رفضوا هذه السياسة ولم يقتنعوا بأن تتحول إسرائيل إلى حليف بعد كل سنوات العداء معها ، فلم تتوقف أقلامهم الناقدة والساخرة وبدأ انزعاج السادات يصل إلى منتهاه وكانت نتيجة ذلك حادثة سبتمبر ۱۹۸۱ التي اعتقل فيها كل المثقفين على اختلاف توجهاتهم. 
 
المثقف في عهد مبارك : 
لم يكن مبارك عداءً للمثقفين، بل في الأغلب لم يكن مهتما بهم وكان موقفه منهم في بدايات حكمه وموقف المثقفين منه لا يحمل أية صراعات، إلى أن بدأ يلتفت لهم في محاولة منه لاستئناسهم، وفي عهد وزير الثقافة فاروق حسني بدأت سياسة الاقتراب من المثقفين وإدخالهم في المنظومة الثقافية وتعيينهم في مناصب إدارية هامة كمستشارين ورؤساء تحرير ورؤساء لجان وغيرها من مناصب قربتهم من الدولة وجعلتهم تحت جناحها ليبعد عن السلطة أية محاولات من المثقفين للتمرد عليها، فأصبحوا مرهونين بها ومنفصلين عن المجتمع ، وتناول شخصية المثقف في أغلب أفلام مرحلة الثمانينيات والتسعينيات الشعور بالتهميش والاغتراب الذي بدأ منذ النكسة وازداد بمرور السنوات وغياب التأثير ؛ ولأن مرحلة الثمانينيات كانت بداية ظهور تيار الواقعية الجديدة في السينما المصرية الذي أسسه عدد من المخرجين الشباب عاطف الطيب محمد خان خيري بشارة داود عبد السيد رأفت الميهي، الذين قدموا فنا سينمائيا مختلفا لا يتملقون فيه توجها أيديولوجيا معينًا، وتغلب على موضوعاتهم الإغراق في الواقعية وتجسيد مشكلات مجتمعية حقيقية، وعليه تحولت أفلامهم إلى منتج ثقافي بالأساس، فكان لشخصية المثقف وجود في هذه الأفلام يحمل - كما ذكرت - مشاعر الاغتراب والإحباط التي يحملها صناع الأفلام أنفسهم في الواقع، نذكر هذا النموذج في أفلام العوامة ۷۰ (۱۹۸۲) ، للحب قصة أخيرة (۱۹۸٦)، قلب الليل (۱۹۸۹)، سوبر ماركت (۱۹۹۰)، شحاتون ونبلاء (۱۹۹۱)، الكيت كات (۱۹۹۱)، البحث عن سيد مرزوق (۱۹۹۱)، آيس كريم في جليم (۱۹۹۲)، ضد الحكومة (۱۹۹۲)، مرسيدس (۱۹۹۳) ، ليه يا بنفسج (۱۹۹۳) ، حرب الفراولة ( ١٩٩٤)، كونشرتو في درب سعادة (۱۹۹۸) مواطن ومخبر وحرامي (۲۰۰۱).
 
ويقودنا هذا الرصد لصورة المثقف في الدراما ( في السينما بالأخص ) للحديث عنه في أعمال الكاتب اسامة أنور عكاشة الذي كان انتمائه لفترة الرئيس جمال عبد الناصر، فكيف ظهر " المثقف " في دراما عكاشة ؟ وهل كان يمثل أبو العلا نمطًا معينًا من المثقفين؟ هل هو مثقف تقليدي أم عضوي (بمعنى أوسع، حامل لقيم ومبادئ معينة)؟ وهل هو ملتزم بقضايا مجتمعه؟ 
 
مسلسل " رحلة السيد أبو العلا البشري " نموذج لصورة المثقف، وهو مسلسلٌ اجتماعيٌ مصري، كان قد عُرض للمرة الأولى في 9 مايو/ 1986 م، وهو من إخراج المخرج الكبير محمد فاضل، وتأليف الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، ويحكي المسلسل عن السيد أبو العلا البشري، ذلك الرجل الذي يحمل الكثير من المفاهيم الصالحة لحياة تقترب من المدينة الفاضلة، وهو قارئ للكثير من الكتب ويمتلك مكتبة ثرية بأمهات الكتب، فهو نموذجا للمثقف في تلك الفترة.
 
واختياري لمسلسل "أبو العلا البشري" كنموذج لدراسة صورة المثقف في الدراما التليفزيونية المصرية يحمل دلالات عميقة وأهمية خاصة، فالمسلسل لم يقدم صورة سطحية أو نمطية للمثقف، بل جسد أبو العلا بشخصية متعددة الأبعاد، تجمع بين العمق الفكري، الالتزام الأخلاقي، الصراع الداخلي، والتأثر بالظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة به، وهذا العمق يسمح بتحليل دقيق لجوانب مختلفة من دور المثقف وتحدياته، ولم يحصر المسلسل دور المثقف في الأوساط الأكاديمية أو النخبوية الضيقة، بل أظهره كشخص من عامة الشعب يمارس دوره التنويري والأخلاقي في حياته الأسرية، المهنية، وفي تفاعلاته اليومية مع الآخرين، وهذا يوسع مفهوم المثقف ويجعله أكثر قربًا من الجمهور.
 
لا يمكن إغفال الدور الحاسم لأداء الفنان القدير محمود مرسي في ترسيخ صورة أبو العلا كنموذج مؤثر بصدقه وعمقه، استطاع مرسي أن يجعل الشخصية أيقونة وأن ينقل للمشاهدين إحساسًا حقيقيًا بمسؤولية المثقف وصراعاته، وتمثيل لمرحلة التحول الاجتماعي والاقتصادي: تعكس شخصية أبو العلا صراع جيل نشأ في ظل قيم معينة ووجد نفسه في مواجهة تحولات اقتصادية واجتماعية كبيرة. إنه يمثل صوت الضمير الذي يقاوم الانجراف نحو قيم جديدة قد تتعارض مع ما تربى عليه.
 
نموذج للمثقف "المستقل": يتميز أبو العلا باستقلالية فكرية واضحة. إنه لا يتبع تيارًا سياسيًا أو اجتماعيًا بشكل أعمى، بل يفكر وينتقد بناءً على قناعاته الخاصة، وهذه الاستقلالية تجعله نموذجًا للمثقف الذي يمتلك رؤية ذاتية، وإبراز أهمية الدور الأخلاقي للمثقف: يركز المسلسل بشكل كبير على البعد الأخلاقي لدور المثقف. أبو العلا ليس مجرد حامل للمعرفة، بل هو مدافع عن الحق والعدل والقيم الإنسانية، وهذا التركيز يجعله نموذجًا يذكر بأهمية البوصلة الأخلاقية للمثقف، وتقديم صورة إنسانية للمثقف: بعيدًا عن الصورة النخبوية أو المتعالية التي قد تُنسب أحيانًا للمثقفين، يقدم أبو العلا صورة إنسانية قريبة من الجمهور، بشغفه، ضعفه أحيانًا، وصراعاته اليومية. هذا يجعل الجمهور أكثر تفاعلاً مع قضاياه.
 
لذلك جاء اختيار "أبو العلا البشري" كنموذج لدراسة صورة المثقف في الدراما التليفزيونية المصرية يرجع إلى عمق الشخصية، تفاعلها مع سياقات زمنية ومكانية محددة، الأداء الاستثنائي الذي قدمه محمود مرسي، وقدرة المسلسل على طرح تساؤلات مهمة حول دور المثقف وتحدياته في المجتمع المصري خلال مرحلة تاريخية هامة. إنه نموذج فريد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويمثل صوت الضمير في زمن التحولات.
 
السياق الزماني والمكاني وتأثيره علي " أبو العلا البشري" 
أولاً: التأثير الزماني (عصر عبد الناصر، السادات، مبارك):
جيل عبد الناصر: فترة حكم جمال عبد الناصر تميزت بمجموعة من القيم والمفاهيم التي من المؤكد أنها شكلت وعي جيل أبو العلا في شبابه. هذه القيم تشمل: القومية العربية والوحدة، ومن المرجح أن يكون أبو العلا قد تشرب هذه الأفكار وحمل نوعًا من الحنين إلى مشروع الوحدة العربية.
العدالة الاجتماعية والمساواة: شعارات الثورة الناصرية بالاهتمام بالطبقات الشعبية وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية ربما أثرت في نظرته للمجتمع وتوقعاته.
 
دور الدولة القوي والتخطيط المركزي: نشأ أبو العلا في عصر كان للدولة فيه دور مركزي في الاقتصاد والمجتمع، مما قد يفسر ميله إلى رؤية الدولة كأداة للإصلاح والتغيير، والاعتزاز بالهوية الوطنية ومقاومة الاستعمار: هذه المشاعر كانت قوية في تلك الفترة ومن المؤكد أنها جزء من تكوينه الثقافي.
 
مرحلة السادات: شهدت فترة حكم أنور السادات تحولات جذرية في السياسة والاقتصاد والمجتمع المصري. من أبرز هذه التحولات:الانفتاح الاقتصادي: التحول نحو اقتصاد السوق والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية ربما أثر في قيم المجتمع وظهور مفاهيم جديدة مثل الاستهلاك والمادية بشكل أكبر، وفي المسلسل نظر أبو العلا إلى هذه التحولات بعين ناقدة، وكانت لها تأثير كبير عليه . 
 
عصر مبارك (فترة أحداث المسلسل): تدور أحداث المسلسل في عهد حسني مبارك، وهي فترة تميزت بـ: استمرار الانفتاح الاقتصادي وتعمقه: وتزايد مظاهر الاستهلاك والطبقية، تنامي نفوذ رجال الأعمال: وبروز دورهم في الحياة السياسية والاقتصادية، وهنا في المسلسل سنجد نموذج لهذه الفئة في شخصية " مهران " التي قدمها الفنان نظيم شعراوي 
في هذا السياق الزمني، يمكن فهم تمسك أبو العلا بقيم الماضي (التي تشكلت في عصر عبد الناصر) وصراعه مع قيم الحاضر (التي برزت في عصري السادات ومبارك). قد يرى في التحولات الاقتصادية والاجتماعية ابتعادًا عن المثل التي نشأ عليها، كما أن جمود الأوضاع السياسية قد يجعله يشعر بالإحباط إزاء إمكانية تحقيق إصلاح حقيقي على نطاق واسع.
 
التأثير المكاني (الهجرة من الريف إلى المدينة):
الريف: الصفاء والنقاء والقيم الجماعية: يمثل الريف في الذاكرة الشعبية (وربما في وعي أبو العلا) مكانًا يتميز بالبساطة، الترابط الأسري والاجتماعي القوي، القيم الأصيلة مثل الشهامة والمروءة والتكافل، ونقاء العلاقات الإنسانية. ترك أبو العلا لهذه البيئة يعني فقدان هذا النمط من الحياة والدخول إلى عالم مختلف.
المدينة: التنافسية والفردية والتعقيد: تمثل المدينة على النقيض من ذلك عالمًا أكثر تعقيدًا، يسوده التنافس الفردي، وتتراجع فيه الروابط الاجتماعية التقليدية، وتبرز فيه مظاهر المادية والاستهلاك. قد يجد أبو العلا صعوبة في التكيف مع هذه القيم الجديدة ويشعر بالغربة أو الحنين إلى بساطة الريف.
صراع القيم: هجرته من الريف إلى المدينة تضعه في صراع دائم بين القيم التي نشأ عليها والقيم التي يراها سائدة في المدينة. سعيه لإصلاح أسرته غالبًا ما يصطدم بتأثر أفرادها بقيم المدينة.
 
تأثير التفاعل بين السياقين الزماني والمكاني:
تفاعل السياقين الزماني والمكاني يخلق شخصية أبو العلا،  فهو يحمل قيم جيل نشأ في فترة معينة (عبد الناصر) وانتقل إلى بيئة مكانية مختلفة (المدينة) في فترة زمنية أخرى (مبارك) ذات قيم اجتماعية واقتصادية مختلفة. هذا التفاعل يولد لديه شعورًا بالاغتراب الثقافي والزمني، ويزيد من إصراره على التمسك بما يعتبره قيمًا أصيلة في وجه التغيرات التي يراها تحدث من حوله.
 
شخصية ابو العلا البشري وشخصية دون كيشوت.
(ملامح وأوجه التشابه والاختلاف) 
 
تعد شخصية المثقف المثالي الذي يصطدم بواقع فاسد واحدة من الصور الأدبية المتكررة في الأعمال العالمية والعربية، ومن هنا، يبرز التشابه بين شخصية "أبو العلا البشري"، بطل مسلسل أسامة أنور عكاشة، وشخصية "دون كيشوت"، بطل رواية ميغيل دي ثيربانتس الشهيرة. وبينما تفصل بين الشخصيتين قرون وسياقات ثقافية مغايرة، إلا أن السمات الجوهرية تضعهما ضمن إطار "المثالية الصدامية" مع الواقع، وبالتأكيد، هناك أوجه تشابه واختلاف مثيرة للاهتمام بين شخصية أبو العلا البشري وشخصية دون كيشوت، على الرغم من اختلاف السياق الثقافي والزمني لكل منهما، ولكن يمكن مقارنة "جنون" دون كيشوت الناتج عن الوهم بـ "عناد" أبو العلا في التمسك بمبادئه في وجه تيارات مجتمعية مختلفة.
 
ومن أوجه التشابه : المثالية المفرطة والتمسك بالقيم فكلا الشخصيتين يتميزان بمثالية قوية وتمسك راسخ بقيم يعتبرانها نبيلة وأساسية. دون كيشوت يتمسك بقيم الفروسية النبيلة التي عفا عليها الزمن، بينما يتمسك أبو العلا بقيم الحق والنزاهة والاستقامة في مجتمع يرى أنه بدأ ينحرف عنها. كلاهما يواجه صعوبة في التوفيق بين هذه المثاليات والواقع العملي، ومحاولة إصلاح العالم (بطريقته الخاصة): لدى كل منهما رغبة قوية في إصلاح ما يرونه خطأ في العالم من حولهما. دون كيشوت ينطلق لتصحيح المظالم وإنقاذ المستضعفين وفقًا لقواعد الفروسية، بينما يسعى أبو العلا، من موقعه كموجه ومثقف، للتأثير في مجتمعه وتوجيهه نحو القيم الصحيحة ومقاومة الفساد والانحلال (بمعنى أوسع).
 
أما أوجه الاختلاف، فطبيعة "الجنون" أو الانفصال عن الواقع والفرق الأبرز يكمن في طبيعة انفصال كل منهما عن الواقع. دون كيشوت يعاني من جنون حقيقي ناتج عن قراءته المفرطة لروايات الفروسية، مما يجعله يرى العالم بطريقة مشوهة (طواحين الهواء كعمالقة، إلخ). أما أبو العلا، فهو واعٍ تمامًا بالواقع، لكنه يرفض مسايرته إذا كان يتعارض مع قيمه. مثاليته هي خيار واعٍ وليس نتيجة لخلل عقلي.
 
والعلاقات الاجتماعية: على الرغم من عزلتهما النسبية، فإن دون كيشوت لديه رفيقه سانشو بانثا الذي يمثل صوت العقل والواقعية، أما علاقات أبو العلا أكثر تعقيدًا وتتضمن تفاعلات مع أقاربه والمحيطين به وبهم . 
 
وتعكس هذه المقارنة أزمة الهوية الفردية في مواجهة مجتمع لا يقدّر القيم، وفي حالة دون كيشوت، تنشأ المأساة من الفجوة بين الخيال والواقع، بينما في حالة أبو العلا تنبع من الصدام بين الأخلاق والفساد المادي، وكلا النموذجين يطرحان سؤالًا فلسفيًا حول جدوى المقاومة المجردة في عالم مادي لا يؤمن بالمبادئ.
 
هل المثقف في "أبو العلا البشري" هو نفسه المثقف في بقية أعمال أسامة أنور عكاشة؟
الإجابة الدقيقة: نعم ولا، فعكاشة دائمًا كان مؤمنًا بالمثقف العضوي (بالمعنى الغرامشي):المثقف المنخرط في هموم مجتمعه، المتفاعل مع طبقاته الشعبية، المثقف الذي يرى مهمته إصلاحية لا نفعية، لكن التطور ظهر في أسلوب التقديم، ففي "أبو العلا البشري" (1985)، المثقف كان مثاليًا، قيميًا، أقرب لدون كيشوت، يصارع دون أمل كبير، وفي أعمال لاحقة مثل "الشهد والدموع"، "الراية البيضا"، "أرابيسك"، بدأ المثقف يظهر بصورة أكثر إدراكًا لتعقيدات الواقع: أقل مثالية، أكثر تحليلاً، وفي "ليالي الحلمية" مثلاً، نجد نماذج مختلفة تمامًا: فمثلًا "سليم البدري" و"علي البدري" يمثلان تطور المثقف بين النبل والانتهازية، كما قدمه في مسلسل " ضمير آبلة حكمت "، السيدة المثالية التي تحاول إصلاح منظومة التعليم وتنجح لكنها في اختبار المال يحدث لها اخفاقات . 
 
والخلاصة:  أبو العلا  كان النموذج الأوضح للمثقف المثالي، وفي بقية أعماله، وهناك عدد من النقاد ربطوا شخصية أبو العلا البشري مباشرة بأفكار المثقف الغرامشي (نسبة إلى المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي) حول "المثقف العضوي"  وهي فكرة أن المثقف يجب أن يكون مرتبطًا بقضايا طبقته وشعبه، لا منعزلاً في برج عاجي.
 
تحليل أداء محمود مرسي في دور "السيد أبو العلا البشري": 
أسامة أنور عكاشة كتب شخصية أبو العلا البشري وهو يتخيلها مجسدة بصوت وأداء محمود مرسي. كان اختيار مرسي مثاليًا لعدة أسباب: صوته الرزين، قدرته على التعبير الصامت، حضوره القوي دون افتعال، وملامحه التي تجمع بين الحدة والرحم، كما انه استخدم صوته بذكاء بالغ، فكان نبراته موزونة، صادقة، لا تعرف الانفعال المبالغ فيه ولا البرود الجاف، وفي مشاهد المواجهة، كان يتحدث بنبرة عقلانية حادة، مع لمحة أسى خفية، تعبر عن خيبة الأمل لا الغضب، واعتمد كثيرًا على "الصمت المعبر"، بحيث كان الصمت في بعض المشاهد أبلغ من أي حوار.
 
أما عن الأداء الجسدي وتعابير الوجه فقد جسد حالة المثقف المنعزل بجسده المتحفظ، حركاته القليلة المحسوبة، وكأنه يخاف أن يبدد طاقته في عالم لم يعد يؤمن به، وكانت عيناه تقومان بدور البطولة الخفية، ونظراته الساخرة أحيانًا، الحزينة غالبًا، النافذة دومًا إلى جوهر الموقف، وفي مشاهد الحنين (مع نعمات أو ليلى)، ظهرت لمحات عاطفية دقيقة في ملامحه: ارتجاف بسيط للشفتين، أو ارتخاء مؤقت في النظرة، مما أضفى صدقًا عاطفيًا بالغ التأثير.
 
رسم محمود مرسي شخصية أبو العلا كرجل قادم من زمن آخر، يرى في الانفتاح الاقتصادي خيانة للفقراء وللقيم النبيلة، ولم يقدّم أبو العلا كقديس منزّه عن الخطأ، بل أظهر توتره الداخلي، صراعه بين الإيمان التام بأفكاره وحاجته إلى التسامح مع تناقضات البشر، وتجلى الأداء بالقوة الصامتة، حيث واجه انتهازية صفوت بسخرية مرة دون صراخ، وكأنما يحاكم زمنًا بأكمله من خلال فرد واحد، ومشهد الانسحاب من العالم جاء غارقًا في الحزن الصامت، كأنه انطفاء شمعة مثقلة بالهموم، ويواجه فيه مدرس التاريخ الذي يظهر له في لحظات الاخفاق دائما، ليعاتبه ويحاسبه ويلومه 
 
قدم محمود مرسي شخصية أبو العلا البشري كنموذج للدراما النفسية الصادقة: مثقف حالم صلب داخليًا وضعيف أمام فقدان الأحلام، وأضفى على الدور ما هو أبعد من النص : عبّر عن "مأساة المثقف العربي" كلها عبر ملامحه وصمته وحديثه البسيط، والخلاصة أن أداء محمود مرسي في "رحلة السيد أبو العلا البشري" يُعد من أعظم الأداءات الدرامية في تاريخ التلفزيون العربي، حيث مزج بين الصدق الفني العميق والبناء النفسي المركب، مانحًا شخصية أبو العلا حياةً نابضةً تتجاوز حدود العمل الفني إلى مستوى الرمز الثقافي والاجتماعي.
 
هل نجح ابوالعلا البشري ذلك المثقف في اصلاح المجتمع الذي كان يعيش فيه ؟ سؤال اعتقد سوف تختلف الإجابة عليه من مشاهد لآخر ولكن من واقع المسلسل، يمكن القول إن أبو العلا البشري نجح في تحقيق نوع من "الإصلاح المصغر" أو "التأثير الموضعي" على مستوى الأفراد القريبين منه، ولقد كان بمثابة ضمير حي يوقظ الوعي ويقدم نموذجًا بديلًا، ومع ذلك، لم يتمكن من تحقيق إصلاح شامل أو واسع النطاق للمجتمع ككل.
 
ونستنتج أن نجاح أبو العلا البشري في إصلاح المجتمع كان جزئيًا وغير مباشر، لقد نجح في التأثير على مستوى الأفراد وتقديم نموذج للقيم، لكنه لم يتمكن من تحقيق تغيير جذري على نطاق واسع، وأسامة أنور عكاشة قدم شخصية "أبو العلا البشري" بطريقة تمزج بين التقدير للمثقف، والنقد له في الوقت ذاته، وكان تصويره لشخصية المثقف مليئًا بالتعقيد والتنوع، حيث عبر عن الأبعاد الإنسانية العميقة لهذه الشخصية وقدم لنا صورة المثقف المتورط في الصراعات الشخصية والفكرية والاجتماعية، وقدم الفنان محمود مرسي في "رحلة السيد أبو العلا البشري" صراع المثقف المصري بين المثالية والواقع، مقدمًا صورة درامية خالدة عن المثقف الذي يصر على التمسك بالقيم رغم تحطم الأحلام، وأبو العلا لم يكن مجرد شخصية درامية، بل كان ضمير عصره، وصدىً شفيفًا لانهيار منظومة القيم التقليدية في مصر ما بعد الانفتاح.
 
 

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر