تحوّلات المسرح الرحباني بين المثالية والواقعية وتأثير البيئة الحاضنة

آن ماري سلامه آن ماري سلامه
 
بقلم : آن ماري سلامه – لبنان
المسرح هو انعكاس لقضايا البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية التي ينشأ فيها، يتغذّى من ثقافة وحياة الناس التي يحاكيها، وفي لبنان، البلد الذي جمع بين التعدد الثقافي والطائفي والسياسي والاجتماعي، كان المسرح انعكاسًا لهذه التداخلات المعقدة، وجاءت تجارب المسرحيين فيه لتجسد هذا الواقع المتغيّر بين زمن الأمل وزمن الانهيار، والمثال الأبرز على هذه التحولات والتناقضات، العلاقة الجدلية بين مسرح الأخوين رحباني من جهة ومسرح زياد الرحباني من جهة أخرى.
 
لا يمكن للمسرح أن يعيش في فراغ، بل يتأثر بمجموعة من العوامل المتشابكة، والتي منها الهوية الثقافية : يتغذى المسرح من تراث المجتمع ولغته وعاداته، مما يجعله مرتبطًا بهوية شعبه لا بل مشاركاً في تكوينها، وفي لبنان، مثلاً، أثرت التقاليد العربية والبيئة المتوسطية والتنوع الطائفي والديني والتاريخ المتعدد الطبقات على شكله ومضمونه.
 
كما أن الواقع السياسي في المجتمعات التي تعاني من القمع أو الحرب أو الفساد، يتحول المسرح إلى ساحة مقاومة أو تنفيس، وفي لبنان كان للمسرح هذا الدور خصوصًا خلال الحرب الأهلية، أما الوضع الاجتماعي والاقتصادي كالفقر، الطائفية، البطالة والهجرة، كلها قضايا برزت في المسرح اللبناني سواء في أعمال الأخوين رحباني أو زياد الرحباني، تعبيرًا عن واقع ملموس وإن اختلف شكل التعبير عنها فنياً وجمالياً.
 
طبيعة الجمهور تحدد نوع المسرح المنتَج، فالجمهور اللبناني المتنوع سمح لظهور أنواع وأشكال مسرحية مختلفة من المسرح الشعبي الغنائي إلى المسرح السياسي النقدي إلى الكوميدي إلى الشانسونيه، ورغم غياب البنية التحتية ودعم الدولة، سمحت المبادرات الفردية وتضحيات المسرحيين اللبنانيين للمسرح اللبناني بالنمو والتطور، لكن أزمات الاقتصاد والحروب والاحتلالات أثرت سلباً على حركة المسرح المعاصر وعلى مسارات تطوره.
 
لبنان بتنوعه الطائفي والثقافي أصبح أرضًا خصبة لتجارب مسرحية مختلفة وقد تأثرت هذه التجارب بمجموعة عواملمنها التنوع الثقافي والطائفي، فقد انعكس هذا التنوع في أعمال مسرحية عالجت الانقسامات والهويات المتعددة، عبر نصوص جريئة تطرح قضايا الانتماء والاختلاف، كما أن الحرب الأهلية (1975-1990) تركت أثرًا عميقًا على المسرح اللبناني، حيث انتقل من الحلم والاحتفال إلى التهكم والفضح، وتجلى ذلك في أعمال زياد الرحباني التي مثلت خطابًا جديدًا يعكس مأساة اللبنانيين وجاء معاكساً لخطاب مسرح الأخوين رحباني بشكل جذري.
 
المسرح في لبنان احتوى على هامش حرية فريدة مقارنة بالعديد من الدول العربية، ما سمح بظهور نقد سياسي واجتماعي قوي، فالمسرح التجريبي والبديل خلال تاريخ المسرح اللبناني القديم والحديث ظهرت فرق عديدة ذات منحى تجريبي مثل: "محترف بيروت للمسرح" (1968)، فرقة الحكواتي (1978)، " زقاق" و"أشكال ألوان" "كهربا" "محترف لبن" وغيرهم من الفرق والمبادرات التي فتحت آفاق التجريب المسرحي، محاولةً تجديد الشكل والمضمون والعلاقة مع الجمهور، وأيضا الأزمات المعاصرة (الأزمات المالية والانفجارات ) إلى ضغوط كبيرة على المسرح، لكنها في الوقت ذاته وفرت مادة فنية جديدة تعبّر عن الواقع المرير.
 
عندما نقارن بين مسرح الأخوين رحباني ومسرح زياد الرحباني وعلاقتهما بالبيئة الحاضنة في المجتمع اللبناني، تظهر أمامنا مجموعة فروقات تركت أثرها على الانتاج الفني والابداعي لكليهما، وانعكست على الأثر الذي أحدثته في البيئة اللبنمانية وهي: الرؤية والرسالة، فقد قدّم الأخوين رحباني رؤية مثالية للبنان، حيث المسرح مساحة للأمل والوحدة، وصورة شاعرية للإنسان والوطن، فيما قدم زياد رحباني مسرحًا واقعيًا، ساخرًا، يعكس الانهيار الداخلي، ويكسر الصورة المثالية ليكشف مأساة اللبنانيين بين الطائفية والفساد، كما أن اللغة والأسلوب مختلف فاستخدم الأخوين رحباني لغة فصحى ممزوجة بالمحكية، شعرية ومجازیة ورمزية ، تخلق جوًا أسطوريًا ، حالماً وشاعرياً فيما استخدم زياد رحباني اللهجة المحكية البيروتية اليومية، لغة صادمة، ساخرة، تكشف الواقع دون رتوش، أيضا سنجد عند الأخوين رحباني الإنسان بطولي، المرأة رمز الطهارة، الوطن مقدس أما عند زياد الرحباني الإنسان هش، المرأة معقدة، الوطن كيان مختطف، لا أمل فيه.
 
أما الجمهور والمتلقي ففي المساحة التي يحتلها جمهور المسرح اللبناني بين صفة الشريك في الحلم (عند الأخوين) وصفة المتّهم في الخذلان (عند زياد) يبحث جمهور الأخوَيَن رحباني عن الحلم والمشاركة الجماعية، يعيش في زمن المثالية، متواطئ في الحلم، يصفّق ويشارك في بناء الأسطورة بينما يعيش جمهور زياد الرحباني في زمن الواقعية، هو متهم، ساخر من نفسه، مدعو للمواجهة الذاتية، ويعاني من الخذلان، ويضحك ساخراّ من مرارة الواقع.
 
المسرح في لبنان هو تعبير حيّ عن بيئته الحاضنة بكل تعقيداتها، ونموذج الأخوين رحباني وزياد رحباني، كشف تناقضات هذا الفن وارتباطه بالبيئة وتحولاتها، فزياد رحباني عرّى الحلم الخيالي المثالي عند الأخوين رحباني ليظهر الوجه الآخر الحقيقي للواقع، وبين الحلم والواقع، استمر المسرح اللبناني في مقاومته، ليثبت أنه ليس ترفًا بل فعل حياة، يعكس ويؤثر في المجتمع ويتأثر به.
 

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر