عندما نتحدث عن السينما المصرية، فنحن لا نتحدث عن مجرد فن أو صناعة، بل عن ذاكرة أمة، ومرآة روح شعب، ووهج حلم امتد لأكثر من مئة عام. كانت الشاشة الفضية نافذتنا التي نطل منها على أنفسنا، نرى فيها أحلامنا وانكساراتنا، ضحكاتنا الصافية ودموعنا المكتومة. كانت ليالي القاهرة تتنفس حكايات تعرضها "سينما مترو" و"راديو" وغيرهما، وكانت هوليوود الشرق تضج بالحياة، تصنع الخيال، وتصدر الفن والحب واللهجة المصرية إلى كل قلب عربي. أين كل هذا الآن؟ أين ذهب هذا البريق الذي كان يملأ عيوننا ونحن نخرج من صالة العرض وقد لمستنا قصة، أو غير فينا مشهد، أو جعلنا نفكر في معنى أعمق لوجودنا؟
أشعر بحزن عميق وأنا أتجول في أروقة سينما الحاضر، فأجدها شبه مقفرة إلا من أصداء الماضي. لم يعد الأمر مجرد تراجع في المستوى الفني، بل هو شبه غياب. كيف لدولة بحجم مصر، بتاريخها الذي يوازي تاريخ السينما في العالم، أن تنتج عددًا قليلًا من الأفلام سنويًا لا يكاد يشكل ما يمكن أن نسميه "صناعة" بالمعنى الحقيقي للكلمة؟ الصناعة تعني الاستمرارية، والتراكم، والتنوع، وتدريب الكوادر، والمنافسة الحقيقية. ما نراه اليوم هو محاولات فردية متقطعة، ومواسم سينمائية تعتمد على عدد أصابع اليد الواحدة من الأفلام، وكأننا دولة حديثة العهد بالفن السابع. لقد غاب الكم، وغاب معه الكيف، فصرنا أمام فراغ مؤلم، فلا نحن نصنع فنًا يخلد، ولا حتى صناعة تدر ربحا وتفتح بيوتا بالمعنى الواسع والمستدام.
الأمر الأكثر إيلاما هو ما تقدمه هذه الأفلام القليلة. تحولت السينما من كونها سجلا لهموم الإنسان المصري وتطلعاته، إلى مجرد أداة للتسلية السطحية والتهريج اللحظي. انحصرت معظم الأعمال في نوعين لا ثالث لهما: الكوميديا التي تعتمد على الإيفيهات المكررة والنكات المستهلكة بدلا من كوميديا الموقف الراقية التي كانت تميزنا، والأكشن الذي يقلد السينما الغربية في قشورها دون أن يصل إلى إتقانها أو أن يضع بصمته الخاصة عليها. وحتى هذان النوعان، لا يتم تقديمهما بقوة حقيقية أو بحبكة متماسكة. أين الفيلم الذي يناقش قضايانا الاجتماعية بصدق وجرأة؟ أين الدراما الإنسانية التي تغوص في أعماق النفس البشرية كما فعل عمالقة مثل صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وعاطف الطيب؟ لقد صارت الموضوعات مسطحة، باهتة، لا تلمس هما حقيقيا ولا تطرح سؤالا وجوديا، وكأن صناع الأفلام يعيشون في جزيرة معزولة عن واقع الناس وآلامهم وآمالهم.
غيابنا عن المحافل الدولية المرموقة ليس إلا نتيجة طبيعية لهذا التسطيح. نادرا ما نسمع عن فيلم مصري يحصد جائزة كبرى في مهرجان بحجم "كان" أو "برلين" أو "فينيسيا". ليست الجائزة هي الهدف، ولكنها مؤشر على أنك تقدم فنا ذا لغة عالمية، فنا إنسانيا يمكن أن يتواصل مع أي شخص في أي مكان. لقد فقدنا هذه اللغة، وصارت أفلامنا شديدة المحلية في أسوأ معانيها، لا في أجملها. نشاهد العالم يقف احتراما ليصفق بحرارة لثلاث وعشرين دقيقة كاملة لتحية فيلم "صوت هند رجب" للمخرجة التونسية العظيمة كوثر بن هنية فيلم أصيل وموجع مثل ، ونتساءل في حسرة مريرة: متى سيأتي الدور على فيلم مصري يهز وجدان العالم ويستحق هذا التقدير؟"
إن السينما، يا سادة، ليست مجرد ترفيه. وكما قال المخرج الإيطالي العظيم فيديريكو فيليني: "السينما هي طريقة إلهية لقول أشياء عن الواقع". فعندما تغيب السينما الحقيقية، يغيب معها هذا الصوت الإلهي. يضيع الخيال الذي يوسع مدارك المجتمع، وتضيع الأداة التي تمكننا من فهم أنفسنا وفهم الآخر. السينما هي ذاكرة الشعوب البصرية، وحين تتوقف عن التسجيل الصادق، يبدأ النسيان وتتشوه الذاكرة. ما يضيع هو قدرتنا على الحلم الجماعي، وعلى النقد الذاتي، وعلى الشعور بالجمال في تفاصيل حياتنا. يضيع صوت مصر القوي والمؤثر الذي كان يشكل وجدان الملايين.
هل ماتت السينما المصرية؟ لا، أنا أرفض هذا القول. هي تمر بأزمة روح قبل أن تكون أزمة صناعة. هي تحتاج إلى من يحبها بصدق، من يؤمن بها كفن ورسالة، لا كمجرد سلعة تجارية. تحتاج إلى المنتج المغامر، والكاتب الجريء، والمخرج صاحب الرؤية. تحتاج إلى العودة لروحها الأولى، حين كانت تحكي حكاياتنا ببساطة وعمق، بصدق وحب. ما زال في هذا البلد مواهب قادرة على صنع الدهشة، وما زالت شوارعنا وحوارينا مليئة بالحكايات التي لم تُروَ بعد. إنني أنتظر بلهفة وشوق، ذلك الفيلم الذي سيعيد للسينما المصرية نبضها، وسيعيد لقلوبنا نحن عشاقها، ذلك الدفء الذي افتقدناه طويلا.