سلوم حداد وذيوع لم يصنعه الفن.. عن تريند الجيم القاهرية بين ثقل اللغة وخفة النخبة

حازم حسين حازم حسين
 
بقلم حازم حسين
اللغة والاجتماع جسدان متعانقان، ينمو كلاهما بالآخر وفى معيّته؛ حتى لا يمكن الجزم بأيهما الأسبق أو المُحرّك للثانى. تلاقى البشر من منطقة الضعف، وكان الاتصال وقاية لهم من الفردية المُضيّعة، ووسيلة للتغلب على الهشاشة والانفصال. الأفكار سابقة على تجسيدها فى رموز صوتية منطوقة، كانت بدورها أسبق من التدوين والتقعيد لها بمعايير وضوابط نظامية.
 
وإذا كان الكلام حادثا فى الخاطر أولا؛ فإن فاعليته لا تتم إلا بإنجاز مهمته التواصلية، وبها تصير الصور المجردة أصواتا وعلامات، وتتحقق اللغة بالفهم لا الحكاية/ بالفائدة لا الإفادة. أى أن اللغات فى فهمها الصحيح هى مساحة التواطؤ المتفق عليه بين القائل والسامع، وليست البنية الشكلانية فى ذاتها، ولا مُجرد المقدرة على النطق والسماع.
 
تواضَع الناس على أصوات؛ ثم تشكّلت منها مفاتيح قائمة بذاتها، لكنها لا تكتسبُ حضورها الفاعل إلا من نسيج العلاقة البشرية، وعلى الموجة التى تجمع طرفيها.
 
واللغة من هذا المُنطَلق لا تتحقق لها الماهية والجدارة إلا بالتداول، ويكفى لذلك اثنان على القاعدة نفسها، فيما لا قيمة لآلاف المُتحدّثين لو اختلفت ألسُنهم، وغابت المعيارية وبادئة الفهم عنهم؛ فيصير الكلام ضجيجًا، واللغات جميعها خرساء. وفى القلب من هذا طرائق ومستويات، يراها الناظر من السطح تنويعاتٍ على طيفٍ واحد، فيما الواقع أنها لُغاتٌ شتّى.
 
ومناسبة المقدّمة بما فيها من استطراد، الجدل الذى أثاره المُمثّل السورى المعروف سلوم حدّاد، فى حاشية كلامه ضمن فعالية جماهيرية احتضنتها إحدى الدوائر الثقافية بدولة الإمارات، ورأى البعض أنها تنطوى على قدحٍ وإهانة.
 
بينما تلقّاها الآخرون على منحى النقد الطبيعى المشروع، وذاعت فى الناس فاشية الاختلاف بشأن القول والقائل، وما وقع أحدهم على جوهر المُنازعة أصلاً، ولا سعى إلى تفكيك أجزائها عن بعضها، سعيًا إلى الفهم أوّلاً، ثم إلى الخروج من دائرة الرياضات الذهنية المُتجدّدة دومًا فى بيئاتنا، من دون أن تُعزِّز لياقتنا الفكرية، أو تُثمر استيعابًا ووعيًا حقيقيين.
 
كان الرجل يتحدث عن الوسيط اللغوى فى الدراما التاريخية، ويرى أنه لا يصح استدعاء حكايات الماضى بمعزلٍ عن إطارٍ بيانىّ بعينه، يرى أنه يُجسِّد ذاكرة المنطقة وتراثها المعرفى، ويُوفِّر قناة الاتصال الأكثر عمومية ونجاعة بين مجتمعات متباينة فى حاضرها واهتماماتها. وعرّج فى طرحه على أداء بعض المُمثلين للأدوار المكتوبة بالعربية الفصيحة، وفُهِم من كلامه أنه يُعرِّض بهم، أو يذمَّ نمطًا من الركاكة والاستسهال، وما يتولّد عنه من غيبة الإتقان واعوجاج اللسان.
 
خلاصة الطرح؛ أنه لا يستسيغ إحالة القديم إلى نطاق لغوى حديث نسبيًّا، أو جهوىّ فى منشأه واشتباكه مع الاجتماع فى بيئة دون غيرها من بيئات المنطقة. وفيما امتدح طلاقة عبد الله غيث ونور الشريف مثالا؛ ألمح إلى أن الباقين لا يُحسنون نُطق الفصحى، ولا تستقيم لُغتهم ومخارج ألفاظهم.
ما رآه البعض تهجّمًا فى غير مجاله، وحسبه آخرون على الإهانة والمساس بالساحة الفنية المصرية كلها، لا مُجرّد اختلاف فى الرؤى يُعبّر عن صاحبه بالأساس، وينتسب إلى ذائقته وتفضيلاته؛ بأكثر مِمَّا يُرَدّ إلى منهجية أو قاعدة رصينة.
 
كان قد ضرب مثالا بمسلسل «الحشاشين» لكريم عبد العزيز، واعتبر أن العامية المصرية لم تكن مناسبةً لسياق الحكاية وطبيعة الشخصيات.
ولا خلاف على حقّه المُطلَق فى التلقّى، بل واعتقاد ما شاء من مذاهب فى التعاطى مع الدراما واللغة كأداة اتصال ووعاء للأفكار؛ إنما البحث هنا ليس عن آراء سلوم حداد النابعة من رحلته فى الحياة والفن، وخبراته وتجاربه الخاصة، بقدر ما تقع فى حيِّز اليقين الذى بدا مُنطلِقًا منه، وجازمًا فيه بالرؤى على نحو نهائى لا يقبل الاشتباك وتعدّد الآراء.
 
راج المُقتطف المقطوع من مقابلة طويلة على نطاق واسع، واستشرى فى أوردة منصّات التواصل كما تنتشر النار فى الهشيم.
الأغلبية هاجت وماجت واعترضت وبادلت ما تعدُّه سبابًا بسباب مقابل، وأقلية ضئيلة ناقشت الفكرة وتعمّقت فيها، وردّت على المنطق بالمنطق والحجج المضادة، وسعى آخرون إلى التدليل على خطئه باستدعاء القواعد اللغوية، وبالحديث الفصيح لإثبات أنهم قادرون عليه، وليس كما يقول العجوز الطيِّب عن فقدان الإجادة بينهم وانعدام الصلاحية.
 
ولأجل الذهاب إلى عصب الموضوع دون لجج أو تفريعات؛ فقد أصاب «حدّاد» فى نقاط وجانبه الصواب فى غيرها. وما من شَكٍّ أن مستوى معرفة العربية الفصيحة بين المجموع الغالب من العرب على امتداد المنطقة فى أدنى حالاته، ولعلّه هو نفسه تورّط فى اللحن نحوًا وصرفًا، وفاه بمُفردات لا تستقيم بنية وإعرابًا.
 
أما قوله إن «الجيم القاهرية» المشهورة تحريف غير أصيل؛ فإنه ينُمُّ عن معرفة ضئيلة باللغة، وفى النهاية فإنه مُمثّل لا بحّاثة، ولا يمُتّ بصلة قُربى لسيبويه أو نُحاة ولغويى البصرة والكوفة القدامى، وإنما يقول ما يعنّ له، ويمتح مِمَّا توصّل إليه بالتعليم وخبرة العيش، وكلاهما غير ما يتداوله العلماء فى الأكاديميا والمجامع.
 
وكى لا نكون إنكاريِّين ومُغيّبين عن الواقع؛ فالحق أن الأغلبية من الفنانين وغيرهم لا يُجيدون الفصحى، وهذا فى مصر كما فى غيرها، وقد يراه البعض تعبيرًا عن أزمة فى أنظمة التعليم، أو ينحاز آخرون، وأنا منهم بالمناسبة، إلى أنه نتاج جمود اللغة مقابل اتّساع الحياة، والازدواجية التى يعيشها الناس بين الرسمى والشعبى، وأنهم ينفقون جُلّ وقتهم على المحكيات المحليّة، ثم يستعيرون النسخة المتحفية من اللغة فى المحافل والمُنتديات، وعلى طريقة الحسناوات اللواتى يضعن مساحيق التجميل فى المناسبات.
 
ولا أجزم أنه كان يتقصّد الذيوع/ التريند؛ إنما بدا من المرئى أنه قدّم بعض أطروحته بصيغة تهكّمية، وعندما تجاوبت المنصّة والحضور فى القاعة معه بالضحك تمادى، وزاد على ما كان عابرًا باستطراد يؤكّد القصد ولا يُصحّحه.
 
وحتى تلك النقطة لا أفترض فيها سوء النيّة؛ إنما هو أثر التجاوب والتطريب، وارتحال جينات المسرح فى دمه إلى ندوات الثقافة، ليعودة عودة بدائية إلى الانفعال بالجمهور كما ينفعلون به، والانتشاء بردود فعلهم، والسير على هَدىٍ من قاعدة «ما يطلبه المستمعون».
 
يبدو الكلام واقعيًّا فى شِقّ الإجادة؛ لكنه يغض الطرف عن مسائل أعقد وأشد تشابكا. ولعلّ أهمّها الفهم الموضوعى لفكرة اللغة من الأساس، وأدوارها ومجال فاعليتها، ولماذا تزدهر واحدة وتذوى غيرها، وعلى أى أساس ينتخب الناس كلامًا وينصرفون عن كلام.
 
وهُنا يُحال الأمر إلى فكرة الوظيفية والإغناء، وطبيعة الاتصال وعلاقته بالاجتماع واحتياجاته اليومية، وهل يُمكن تجميد لحظة على الضدّ من حركية الزمن، أو هل يصحُّ إعلاء الاحتفالى على الحياتى، واعتبار الهامش متنًا وإقامة الحجّة به على متونٍ تأكّدت بالممارسة والوفرة والإشباع؛ ولو ظلّت الذهنية الأصوليّة مُصرّة على خلاف ذلك؟!
 
وبعيدًا من الغموض؛ فإن للمصريين لُغةً خاصة بهم، جُمِعَت من تُراث طويل تبدّلت فيه على عصور وثقافات شتّى، وعاشرت أقوامًا وعاشروها، فانتقت منهم وانتقوا منها، وصنعت وسيطها الاتّصالى الخالص، والذى لا يتعكّر صفاؤه لمُجرّد أنه يتقاطع مع شبيه هُنا أو منافس هُناك، أو يحسبه الناظرون من سطح الأمور فرعًا على أصلٍ.
 
العامية المصرية لُغة كاملة الأهلية والحضور، تتحقّق لها الصفة أوّلاً بالهيمنة والسيادة، ثم بالاكتمال والثراء وغياب النقص عنها. كما أن لها مُعجمًا وبنيةً لا يُطابقان غيرها؛ وإن غاب عنهما التقعيد نسبيًّا.
 
وإذ يرُدّها البعض للعربية تغليبًا لظاهر التشابه؛ فإن فيها من الفارسية والتركية والفرنسية والمصرية القديمة وغيرها، ويُمكن الوقوع على مفاتيح تُميّزها عن كل واحدة من تلك الفسيفساء العريضة، أكان فى النحت والتصريف، أم فى نحوها وتوليدها للمعانى والدلالات، وكذلك فى تقنيّات النفى والإضمار وقلب الحروف وغير ذلك من تفاصيل لا يتّسع لها المقام.
 
ومن هذا المُنطلّق؛ فأوّل ما يُلام عليه المصرى، فنانًا كان أم غير ذلك، هو ما إذا كان يُجيدُ لُغتَه الأُمّ ولسانه الأصيل أم لا، أما الفصحى بمعرفة إضافية، ولُغة ثانية يتصادف أنها تُشارك العامية فى كثير من التفاصيل، كما يحدث بين كثير من فروع اللغات الأفريقية الآسيوية والهندية الأوروبية، وكما يتجلّى بوضوح بين الفرنسية والإيطالية مثلاً، وفيوض الأمثلة لا يعوزها سوى فسحة الوقت والمكان، ولعلّنا فى غنىً عنها الآن.
 
أما عن صنعة التشخيص نفسها؛ فإنها تستند إلى غابة من المهارات وأدوات التعبير، وليس المنطوق أهمها أو معيارها الوحيد.
 
وإذ يقتدر مُمثّل على الانتقال بين بوليوود وهوليوود، أو الارتحال على طول الخارطة الأوروبية دون عائق من اختلاف اللغة واللكنات؛ فإن المطلوبين لأدوار بالفصحى يُمكن تدريبهم عليها حالة بحالة، ولا ينتقص منهم أنها ليست لُغتهم الأم، ولا قناة تداولهم اليومية فى الحياة ومع الناس.
 
وفيما يخص مُحاكاة الحوادث التاريخية بلهجة محكيّة؛ فقد استسهل فيها سلوم حدّاد كثيرًا. أوّلاً لأن كثيرًا منها لم يَدُر فى أصله البعيد بالعربية الفصيحة أصلاً، كما أن الإزاحة اللغوية هُنا قد تكون عملاً فنيًّا مقصودًا، ونابعًا من رؤية يعتنقها صُنّاع الدراما ويتقصّدون منها شيئًا، فضلاً على أنها واحدة من أدوات التغريب/ كسر الإيهام، المعروفة فى المسرح الملحمى ومدرسة بريخت الشهيرة، ولا يغيب عن الفنان السورى قطعًا أن بناء الجدار الرابع مع الجمهور أو نقضه لا يحدثان عفوًا، ولا يخلوان من دلالةٍ مقصودة بالتأكيد.
 
إن فُصحانا اليوم كانت عاميّة قريش، ولم تكن فى أية لحظة من الزمن قانونًا معياريًّا سائدًا فى الجزيرة العربية؛ لتُفتَرَض لها السيادة أو تُطلَب على عموم الإقليم وبلدانه مُتنوّعة الإرث والمشارب.
 
ولا أُريد أن أعود إلى ما ذرّته رياح الجدالات الثقافية طوال قرون، وخلّفته رمادًا على الطريق، وما يراه كثيرون من قبيل الأحاديث المدرسية؛ لكن السياق هُنا يستدعى التذكير بأن القرآن نزل على أحرفٍ عِدّة، لا عن رفاهية ونزوعٍ إلى التوسّع والإرباك؛ إنما لاحتياج تطلّبته طبيعة المُجتمعات واختلاف ألسُنها.
 
وما المحكيات المعروفة اليوم بطارئة على بيئاتها؛ بل كانت مُعانقة لها كاللُحمة والسداة، وتطوّرت بها ومعها، وما من مقدرة على الجَزم بأن النسخة الرسمية من كلام النُحاة واللغويين قد نزلت الأسواق، أو عاقرت أيّام الناس ولياليهم، وشهدت معهم على المواجع والتحوّلات بين ارتحال واحتلال وكَرٍّ وفرٍّ، وإقدام على بلاد الآخرين أو إحجام فى أزمنة الغُزاة المقبلين علينا.
 
سلوم حداد فنان قدير، وصاحب باع طويل فى الدراما. دخل الرجل عقده الثامن، وقضى من تلك الفترة ما يربو على ثمانية عقود بين أهل الفن.
يعرف الرجل قدر مصر ولا يُنكر عليها السبق والريادة، كما يعرف أقدار زملائه المصريين على اختلاف أجيالهم، وقد عمَل مع الكبار منهم كما فى تجربة «أبو العلا 90» بجوار محمود مرسى، وحضر فى معيّة من يقلّون عن هذا كثيرًا كما فى دوره الهامشى بفيلم «صرخة نملة».
 
وإذ يُحتَمَل أنها تداعيات المهنة الواحدة/ أبناء الكار، وطبيعة المنافسة المُعتادة والمقبولة؛ فلا يغيب عن الاحتمالات أنه يُعبّر عن ذائقة وتوجّه، وينطلق من خبرة خاصة، ومن معرفة ذاتيّة لا يُزعَم لها الشمول والإحاطة، ولا تُعبّر إلا عن شخص بعينه، فى سياق ثقافى مُتراجع كثيرًا على امتداد الساحات العربية، وليست سوريا بدعًا من البلدان فى هذا، ولا حجّة وحَكَمًا على غيرها.
 
وأشدُّ ما يلفت النظر فى حديثه المشار إليه، وبمعزلٍ عمَّا قاله بحق الفنانين المصريين، أنه واقع تحت سطوة الشعبيّة وخطاب العامّة، بكل ما فيها من أُصوليّة عتيقة يُجنّبها أصحابها ثِقَل الاختبارات اليومية، ويُصرّون عليها رغم اهتزازها بعوادى الزمن وعاديّات الأيام.
 
وذلك؛ مثلما يتحدث مثلاً عن «قدسية اللغة»، أو يجزم بثقةٍ لا يُخالجها الشك أن العربية الرسمية يفهمها الجميع من المحيط للخليج، صغيرًا وكبيرًا وطفلاً، وهو ما يصح بحق العامية المصرية لو ابتغى الإنصاف وجدارة التعميم، فيما يُناقض نفسه عَمليًّا عندما يتحدّث عن «الجيم القاهرية» الفصيحة، وهو آت من بيئة تنطقها أقرب إلى الشين، وجالس بين جمهور ينطقونها ياءً.
 
إنه زَلَل الكبار عندما يتحدّثون فى غير اختصاصهم، ويُعمّمون أفكارهم السطحية البسيطة على مجالات وقضايا أعقد من تصوّراتهم، وأشدّ اتّساعًا من حدود معارفهم البسيطة.
 
والرجل مُمثّل مهم من دون شَكٍّ؛ لكنه ليس لغويًّا ولا مؤرّخًا ومُنظّرًا فى الدراما وطبقات الفنون ومذاهبها، والقشرية البادية فى مقارباته لا تختلف فى شىء عن أى سورى من عادى من حواضر الشام، أو مِمّن طحنتهم الحرب الأهلية وشرّدتهم بين المنافى. إنها جائحة الثقافة المتفشّية من الجزيرة إلى ساحل الأطلسى، والتى لا تنجو منها نخبة أو دهماء.
 
وأوجب ما يُثيره حديث المُبجّل سلوم حداد؛ الحاجة إلى الاعتراف بأزمة الوعى التى صارت ألصق صفات القوميّة بالبيئات العربية كلها، وضحالة معرفة النُّخب والمهنيِّين فى شتّى المجالات، وضرورة الاشتغال على التعليم والتثقيف بنزعة عمومية لا تستثنى أحدا، ولا تُحسن الظن بأحد أيضًا، على أن يكون الأمر مشروعًا قوميًّا فى كل دولة على حِدة، وضمن آليات التعاون والتشبيك بين أبناء الثقافة الواحدة، من دون افتراضٍ أن شراكتنا فى لُغة جامعة تجُبّ تمايزنا فى لُغاتنا الخاصة المُميَّزة.
 
سلوم حداد عنوان على حالة عامة، الأغلبية فيها أجبن من التصريح بما يعتمل فى صدورهم، وأحوط من الإدلاء بما يكشف عوارهم، ويبين عن ضآلة حصائلهم وتهافت منطقهم وأفكارهم.
 
إنه لا ينطلق بالتأكيد من رجعيّة كالتى تحكم الشيوخ، ولا من كراهيّة تُغذّيها القبلية وتمايُزات الجغرافيا والوفرة المالية وصراعات الأدوار بين الدول، كما يأخذ موقفًا سياسيًّا يُغلّفه بأصولية فكرية كما لدى الجماعات المُتطرّفة؛ لكنه يتورّط فى المثالب كلها من حيث لا يقصد، ويخلط الأصيل بالدخيل، والراسخ بالعارض، وينزلق بإرادته إلى ما يشى بالشوفينية وإثارة النزعات الجهوية بما تضمره من فِتَن وكراهية؛ رغم أنه لا يتقصّد هذا قطعًا، ولا فى سيرته ما ينُمّ عن شخصية استعراضية أو نفسٍ غير سويّة.
 
العربية ثقيلة على عموم المُنتسبين لها، ولو اختبرت مئات الملايين على امتداد خارطتها لرسبت الأغلبية فيها من دون مُبالغة. والحال؛ أن المُشتغلين بها أنفسهم يستقيم لسانهم على الورق ويتعثّر فى الكلام، إلا استثناءات محدودة بالطبع، ما يُعبّر عن أثر الازدواجية والتداخل بين وسيطين: أحدهما يتسيّد الحياة بكل ما فيها من يوميات وتفاصيل، والآخر يُطلّ برأسه على فواصل مُتقطّعة ليُخبّر عن وجوده، ويقول للجميع إنهم ناقصو أهلية وجدارة.
 
والحل هُنا ليس فى استمراء التناقُض والادعاء؛ بل فى التوحُّد مع حقائق الواقع وعدم التعالى عليها. فى تقعيد المحكيّات الوطنية ومَنحها ملابس رسمية تُدخلها فى نسيج المحافل الممنوعة عليها، وإبقاء العربية مرجعًا وثابتًا معرفيًّا لدى المتخصصين فيها والمُهتمين بها، وبقدر الحاجة لدراسة النصوص وأداء الطقوس والعبادات، من دون أن تكون الإجادة من عدمها حجّة لأحد أو على غيره، أو مسبّة ومنقصة، فيما مئات الملايين هنا وهناك يتخاطبون بأكثر من لُغة، والوسائط التقنيّة الحديثة صارت تُرجمانًا بين الجميع، وعمّا قريب ستكون جسرًا عريضًا بين الشارع والمتحف/ لُغات الحياة، ولغة التراث والأضابير العتيقة.
 
وفى الأخير؛ ربما يبدو المقال نفسه مُتناقضًا، وقد يراه البعض ناحيًا إلى مستوى أرفع من العربية الفصيحة بالقياس إلى المُداوَل منها اليوم؛ لكننى درءًا للمظنّة أقول إننى اخترت عمدًا أن أكتبُ بلُغة غير لُغتى الأصيلة، وبذلت جهدًا لهذا كان يُمكن أن يقلّ كثيرًا لو أننى استعنت بالعامية المصرية وغلّبتها. وقد يجدُ القارئ هِنةً أو أكثر؛ فليغفرها بالازدواجية نفسها التى نتسامح بها مع رَفع سلوم حداد للمُضارع فى المصدر المُؤَوّل، وسنظل نغفر لبعضها البعض، لأننا نستعيرُ قهرًا ما لا نلبسُه بالحاجة والارتضاء.
 
وإلى ذلك؛ فقد تراجعت بعد افتتاحية مُغايرة للمنشورة هُنا عن درجة أعقد من الكلام، واخترت النزول والتبسيط؛ حتى لا يكون الطرح عسيرًا ومستغلَقًا على نسبة أكبر من الناس، وما من شَكٍّ فى أنه بمستواه الحالى سيظلّ صعبًا على آلاف أو ملايين من أهلنا الطيبين فى مصر والشام وأفريقيا وبعض دول الخليج العزيزة، وكثيرون منهم لا يعرفون إلا محكيّاتهم، أو يُجيدون الانجليزية أكثر من العربية.
 
وهُنا؛ قد تستقيم اللغة كما قصدَها سلوم حداد فى حديثه؛ لكنها تسقُط عَمليًّا على صعيد الدور والفاعلية، وهذا ما لا يفهمه المُتعبّدون فى متاحف الماضى للأسف.

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر