جمال عبد الناصر يكتب : حسين نوح يعيد رسم فسيفساء مصر عبر صالونه الثقافي

الكاتب الصحفي والناقد الفني جمال عبد الناصر الكاتب الصحفي والناقد الفني جمال عبد الناصر
 
كتب : جمال عبد الناصر
  • من نازلي فاضل إلي حسين نوح .. رحلة الصالونات التي تصنع الوعي

منذ زمن بعيد، كنت أسمع عن الصالونات الثقافية، تلك المساحات التي جمعت العقول والقلوب في رحلة تنويرية رفيعة، مثل صالون الأميرة نازلي فاضل في مصر، الذي استقطب النخبة الفكرية والسياسية، فقد ضم هذا الصالون أسماءً متباينة الفكر والتوجهات مثل: الشيخ محمد عبده، والزعيم سعد زغلول، والمفكر قاسم أمين، واللورد كرومر والأديب عبد الرحمن الكواكبي والأستاذة هدى شعراوي، لتجتمع هذه القامات تحت سقفٍ واحدٍ لتتناقش وتفكر وتتبادل الخبرات، ومن أمثلة ذلك : التحول الفكري الواضح الذي شهده المفكر قاسم أمين بعد التقائه بالأميرة نازلي فاضل، وقد ناقش هذا الصالون العديد من الأفكار والثقافات، حيث أن الأميرة نازلي كانت تتقن عدة لغات غير لغتها الأم، وكانت سببًا في أن يتعلم الشيخ محمد عبده اللغة الفرنسية ويطّلع على ثقافات أخرى. 

ولدينا أيضا صالون مي زيادة الذي لعب دورًا لا يُمحى في تاريخ الأدب العربي، وصالون العقاد الذي كان مدرسة في الجدل والفكر، وعلى المستوى العالمي، لا تغيب عن الذاكرة أسماء مثل صالون جيرترود شتاين في باريس، وصالونات البلاط الملكي في روسيا، وصالون نينون دي لانكلوس في فرنسا، وغيرها من دوائر الإبداع التي صنعت الوعي وصاغت الفكر.

كان شغفي كبيرًا أن أعيش أجواء تلك الصالونات التي كنت أقرأ عنها في الكتب، حتى جاءني شرف الدعوة من الفنان التشكيلي والمنتج والناقد والمثقف الموسوعي الدكتور حسين نوح، لحضور صالونه الثقافي الذي توقّف فترة ثم عاد، أكثر قوة وإشعاعًا.

  • ملتقى يجمع النخبة المصرية في فسيفساء فكرية وفنية تُعيد للثقافة دورها في صناعة الوعي
صالون حسين نوح الفكري
صالون حسين نوح الفكري

في صالونه، اجتمع الطيف المصري والعربي  في أبهى صوره: مفكرون، إعلاميون، ناشرون، أطباء، كتاب، فنانين، ومخرجون، فقد كنت أمام لوحة فسيفسائية متجانسة رغم اختلاف مكوناتها، تُجسّد مصر الحقيقية الغنية بعقولها، المتوهجة بإبداعاتها.

كان ضيف الصالون هذه المرة الدكتور حسام بدراوي، رجل الثقافة الموسوعية والطبيب الكبير والمفكر السياسي الذي جمع بين خبرة السياسة والتعليم والطب والثقافة، وأدار الحوار الإعلامي والكاتب الكبير محمد الغيطي بحنكة وثراء معرفي، قادنا من خلال أسئلته إلى محطات متعددة من رحلة بدراوي: في السياسة، في التعليم، في الثقافة والفن، وقد بدا لنا أن الحديث معه لا يقتصر على سيرة رجل، بل يكاد يختصر تاريخ مرحلة كاملة من مصر الحديثة.

 

  • صالون حسين نوح… منصة لإحياء الحوار وصناعة الوعي
صالون د. حسين نوح
صالون د. حسين نوح

ما أثار إعجابي أن الصالون لم يكن مجرد لقاء اجتماعي أو جلسة عابرة، بل كان حوارًا عميقًا متدفقًا، تتلاقى فيه الأفكار وتتصارع وتتناغم، وكأننا في ورشة تفكير وطني، وكان كل حضورٍ يضيف بصمته : من الإعلامي والكاتب محمد الغيطي، إلى الناشرة فاطمة البودي، والكاتبة فاطمة ناعوت، والكاتب عصام نجيب، والسياسي أسامة كامل رئيس حزب مصر الفتاة، والفنان القدير شريف خيرالله، والمخرج أحمد فتحي شمس، وغيرهم من الوجوه التي انتقاها د. حسين نوح بعناية ودراية، ليكتمل المشهد الثقافي.

لقد جعلني هذا الصالون أُعيد التفكير في أهمية وجود مثل هذه الدوائر الفكرية، فهي ليست ترفًا ثقافيًا بل ضرورة لصناعة الوعي وتحرير العقل، فالصالونات الثقافية على مر التاريخ كانت دائمًا منابر للنقاش الحر، منصات لتبادل المعرفة، ومصانع لصياغة الرأي العام وصناعة الأفكار، و أحيانًا فكرة صغيرة تطرح في صالون، تتحول مع التراكم إلى مشروع وطني أو أدبي أو فني خالد.

ومن هنا، لا يسعني إلا أن أوجه تحية شكر وتقدير خالصة إلى الدكتور حسين نوح، لأنه لا يكتفي بدور الفنان والمفكر، بل يعيد إحياء تقليد أصيل يربط بين الماضي والحاضر، ويُعيدنا إلى زمن كانت فيه الكلمة تملك سطوتها، والفكرة قادرة على تحريك الجبال، إن صالونه ليس مجرد لقاء شهري، بل هو صورة مصغرة لمصر الحقيقية: متنوعة، ثرية، نابضة بالعقل والروح والإبداع.

ولذلك أقول: ما أحوجنا اليوم إلى صالونات فكرية تعيدنا إلى جوهر الثقافة، وتضع أمامنا طريقًا لصناعة وعي جمعي قادر على مواجهة التحديات، فالصالونات ليست ترفًا، بل هي أحد مفاتيح النهضة.

 

 


اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر