منذ أن وُجد المسرح كفن، كان السؤال الوجودي هو وقوده الأهم، الخشبة ليست مكانًا للحكايات المسلّية فقط، بل مساحة مفتوحة لطرح المعضلات الكبرى: الذنب، الموت، المصير، معنى أن نكون بشرًا في عالم يبتلع أحلامنا ويثقل أرواحنا بالندم، من هذا الأفق يأتي عرض " فزّاعات " الذي شارك في مهرجان مسرح بلا انتاج في الإسكندرية ، ليحمل الحكاية القديمة عن قابيل وهابيل، لا ليعيد روايتها كما نعرفها، بل ليجعل منها مرآة لحاضرنا الممزّق، ولعنةٍ ما زالت تطارد الإنسان في كل حرب ومجزرة، وفي كل ضمير يبحث عن الخلاص.
لكن ما يميز هذا العمل أنه لا يسعى إلى تقديم سرد تاريخي أو وعظي، بل يذهب إلى مناطق أعمق، ليقدّم قراءة وجودية للشخصيات والأحداث، قراءة تجعل من الأسطورة القديمة حكاية معاصرة عن الإنسان الممزّق بين البراءة والخطيئة، بين الأمل والدمار، بين الرغبة في الخلاص وغريزة الفناء.
النص الذي كتبه صالح زمانان ليس مسرحية بالمعنى التقليدي، بل هو أقرب إلى “قصيدة درامية” تتحرك بين الرمز والأسطورة، وتستعير من اللاهوت والفلسفة والميتافيزيقا لبناء رؤيتها عن القتل الأول بوصفه أصلًا للشر الإنساني.
لغة زمانان شعرية كثيفة، مليئة بالصور والاستعارات، لكنها في الوقت نفسه تحمل بعدًا سجاليًا وجوديًا، إذ يحاور النص الإنسان نفسه، ويكشف تناقضاته وهشاشته. قابيل في “فزّاعات” ليس مجرد قاتل أخيه، بل نموذج للإنسان المأزوم الذي يحيا بين ندمٍ مستحيل وشهوة قتل متجددة. وكأن النص يقول إن القاتل الأول لم يمت، بل يسكننا جميعًا في صورة أخرى.
اختار المخرج صبحي يوسف أن يتعامل مع النص كلوحة فنية وفلسفية في آن واحد ، فالفضاء المسرحي بُني على ثنائية “الحياة/الموت”، “الحقول/المقابر”، لتبدو الخشبة وكأنها أرض فقدت براءتها. الفزّاعات المنتشرة لم تكن مجرد ديكور، بل رمز لطرد البراءة قبل طرد الطيور، وكأن الأرض نفسها تتحوّل إلى مسرح لجرائم الإنسان منذ الخطيئة الأولى وحتى حاضرنا الراهن.
السينوغرافيا اعتمدت على البساطة الموحية، حيث الظل والضوء يتحاوران بصريًا لخلق مناخ وجودي متوتر، يوازي ما يعيشه قابيل من صراع داخلي. هنا تذكّرنا المشهدية برؤى مسرح الطقوس، حيث الجسد والفضاء يتحدان لصناعة معنى يتجاوز الحكاية إلى التجربة الروحية والفلسفية.
قدّم حازم شاهين موسيقى ذات طابع جنائزي شجي، لم تصحب العرض كخلفية بل كصوت موازٍ للنص، صوت الأرض والضحايا، فيما جاءت الإضاءة – بتوقيع مهند الحارثي – لتعمّق لحظات المواجهة الداخلية مع الذات، فصارت الظلال كيانًا رمزيًا يطارد قابيل في كل حركة. أما الأزياء التي صممتها إبتهال الغريب فمزجت بين البدائي والأسطوري، مؤكدة أن ما نشاهده ليس تاريخًا مضى بل رمزًا يتجدد في حاضرنا.
أداء الممثلين جاء متماسكًا، يعتمد على الجسد والصوت بنفس القدر، ليخلق جوقة تراجيدية متناغمة تتوزع الأدوار داخلها دون استعراض فردي. كان قابيل ممزقًا ومثقلًا بالذنب، بينما تحوّلت الفزّاعة إلى “صوت الضمير” الذي يلخّص مأساة الإنسان منذ بدء الخليقة.
الفلسفة هنا تتجاوز النص لتشمل العرض كله: السينوغرافيا، الموسيقى، الإضاءة، الأداء. كل عنصر بدا جزءًا من تأمل كبير في معنى الحياة والذنب والعنف، كأن العمل يكرر سؤال هايدغر: لماذا يوجد الوجود بدلًا من العدم؟
"فزّاعات" عرض يفتح جرح الإنسان الأول، لا ليحكي القصة من جديد، بل ليضعنا أمام حاضرنا الملطخ بالدماء. نص صالح زمانان ولغة صبحي يوسف البصرية والموسيقية جعلت المسرح هنا مساحة تفكير واحتجاج، ضد القتل والعنف، وضد تكرار التاريخ لذاته.
بهذا المعنى، يؤكد العرض أن الفن ليس ترفًا جماليًا، بل هو حارس الذاكرة وضمير الإنسانية، المنصة التي تذكّرنا دومًا بأن القاتل الأول ما زال حيًا فينا، وأن الخلاص يبدأ حين نصغي لصوت الضحايا قبل أن نحتفل بنصر القتلة.