شكسبير بين الثبات والتغيير.. تجربة "المعالجات" مع د. إيمان عز الدين

د. ايمان عز الدين وجمال عبد الناصر د. ايمان عز الدين وجمال عبد الناصر
 
كتب جمال عبد الناصر
قيصر يجب أن يموت.. حين يصبح الفن سجنًا من الوعي
 
مسرحية وليم شكسبير "يوليوس قيصر" تحفة خالدة تتناول تيمات السلطة، الطموح، الخيانة، العدالة، والحرية في سياق روما الجمهورية، وهي قصة مؤامرة واغتيال، تتبعها حرب أهلية وانهيار، وهذا النص الثري قررته علينا الأستاذة الدكتور إيمان عز الدين في قسم الدراسات العليا بكلية الآداب جامعة عين شمس في مادة " المعالجات"، والتي اعتبرها من أهم المواد التي درستها لأنني تعلمت منها أن النص الأدبي ليس جامدًا، بل قابل لإعادة إنتاجه ومعالجته عبر العصور، كما أنها تساعد على دراسة جدلية الثبات والتغيير، فالنص الأصلي ثابت، لكن كل معالجة تكشف عن رؤية فنية أو فكرية جديدة مرتبطة بزمانها ومكانها، كما أنها تمنحنا كدارسين أدوات تحليلية لفهم كيف ولماذا يُعاد تقديم نص بعينه (مثل نصوص شكسبير)، ومعرفة الإضافة التي تقدمها كل معالجة.
 
وأيضا هناك أهمية فنية وجمالية تكشف أن العمل الأدبي قد يُقدَّم مرة برؤية كلاسيكية، وأخرى برؤية حداثية أو تفكيكية، مما يُبرز ثراء النص الأصلي، ويعكس كيف يفتح النص المجال أمام خيال المخرج أو الكاتب المعالج، فينتج أشكالًا بصرية وجمالية متعددة، وهنا نقدر القيمة الفنية للمعالجة، فهل أضافت رؤية جديدة؟ أم كانت مجرد تكرار لا يقدم شيئًا؟
 
في كتاب "نظرية في الاقتباس"  A Theory of Adaptation لليندا هاتشيون، تري الاقتباس ليس عملاً سلبياً، بل هو "إعادة زيارة متعمدة" لعمل سابق عبر وسيط مختلف، ويتضمن عملية إبداعية لإعادة التفسير، فالاقتباسات تجربة تفاعلية مع النص الأصلي، وتُتيح فهمًا جديدًا له وللسياق الذي يُقدم فيه، وما بين النص المسرحي الشكسبيري و الفيلم السينمائي " قيصر يجب أن يموت" (Cesare deve morire)  للأخوين فيتوريو وباولو تافياني عام 2011، جاءت المعالجة الكاشفة عن رؤية فنية و فكرية جديدة مرتبطة بزمانها ومكانها، ويختار الأخوان تافياني هذه المسرحية ليس لجمالها الأدبي فحسب، بل لكونها نصاً عالمياً قابلاً للاكتشاف والاستكشاف المستمر، ويحمل صدى عميقاً لواقع السجناء، وفيلم التافيانيان يُجسد هذا المفهوم بامتياز، فهو لا يكتفي بإعادة سرد قصة شكسبير، بل يُعيد بناءها داخل سياق سجن واقعي، مما يُحدث تفاعلاً نصياً عميقاً بين كلاسيكية شكسبير وواقع حياة سجناء إيطاليين.
 
 
منذ أن عرفت الفن، تحولت هذه الزنزانة إلى سجن.. هذه العبارة الختامية المؤثرة، التي تُسمع على لسان كوزيمو ريجا، الممثل الذي جسد دور كاسيوس في فيلم " قيصر يجب أن يموت" (Cesare deve morire)  للأخوين فيتوريو وباولو تافياني عام 2011، تلخص جوهر التجربة السينمائية الفريدة التي يقدمها هذا الفيلم الحائز علي جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي لعام 2012، لا يكتفي التافيانيان بتقديم اقتباس مسرحي لشكسبير، بل يغوصان في أعماق العلاقة بين الفن والواقع، بين حرية التعبير وقيود السجن، ليُظهرا كيف يمكن للفن أن يكون خلاصاً وعبئاً في آن واحد.
 
فيلم " قيصر يجب أن يموت " يضعنا منذ لحظاته الأولى في قلب تراجيديا مزدوجة تراجيديا يوليوس قيصر الشكسبيرية، وتراجيديا حياة سجناء حقيقيين في سجن ربيبيا شديد الحراسة بالعاصمة الإيطالية روما، ويبدأ الفيلم بمشهد قصير يُظهر نهاية مأساة بروتوس، أحد أبطال مسرحية شكسبير، ثم ينتقل المشهد ببطء إلى اللونين الأبيض والأسود، ليُعيدنا ستة أشهر إلى الوراء، حيث يبدأ نزلاء السجن -المحكوم عليهم بجرائم خطيرة تتراوح بين القتل وتهريب المخدرات، وينتمون لعصابات المافيا والكامورا- في تجربة فريدة من نوعها: إعداد مسرحية "يوليوس قيصر" لشكسبير.
 
هنا يكمن العبقرية الفنية للأخوين تافياني في المزج المتقن بين عالمين متناقضين، عالم روما القديمة وشخصياتها الأسطورية، وعالم السجن القاسي بواقعه الأليم. 
 
فالفيلم يقدم "غواية الاستبداد" كعنوان أصغر للمسرحية، مما يعكس رؤية المخرجين للعمل الشكسبيري كمرآة للحياة المعاصرة بكل تقلباتها، وتتجسد هذه الفكرة عبر عملية اختيار الممثلين، حيث لا يكتفي المخرجان باختيارهم بناءً على قدراتهم التمثيلية، بل يرتكز الاختيار على خلفياتهم الإجرامية وتجاربهم الشخصية، ليصبح كل سجين هو شخصية شكسبيرية في قالب إنساني حي، وعلى الشاشة، تتسرب معلومات عن جرائم كل ممثل، مما يُسقط تاريخهم الشخصي على أدوارهم.
 
تتحول قاعة التدريبات، والطرقات، والزنازين، وحتى أسطح وسلالم السجن، إلى فضاءات مسرحية تتوالى فيها "البروفات"، فالفيلم يمزج ببراعة فائقة بين أحداث المسرحية وشخصياتها، وبين حياة وأحاسيس الممثلين أنفسهم، فالصراعات على السلطة والخيانة والموت التي تُقدمها مسرحية شكسبير، تجد صدى لها في تجارب السجناء أنفسهم، ويرى التافيانيان في شكسبير "قابلاً للاكتشاف والاستكشاف المستمر"، وقد قاما "بتفكيك النص وإعادة بنائه مرة أخرى بما يتوافق ويتوافق مع موضوعهم"، وهذا لا يعني مجرد تكييف سطحي، بل هو غوص عميق في التناص، حيث تتفاعل النصوص وتتعالق، ليُصبح النص الشكسبيري جزءًا من "الوعي الجمعي للإيطاليين".
 
أحد أبرز مظاهر هذا التفاعل هو استخدام الممثلين لهجاتهم الإيطالية الأصلية، وخاصة اللهجات الجنوبية التي تُعتبر لغات "الطبقات الأدنى" في إيطاليا، وهذا الاختيار ليس فنياً بحتاً، بل هو "تصريح سياسي" يعيد الاعتبار لهذه اللهجات ويؤكد أن الفن يمكن أن ينبثق من أي مكان، حتى من أعتى زنازين السجن، وإن شغف الممثلين السجناء بالمسرحية ينبع من رغبتهم الشديدة في كشف الحقيقة التي يجدون فيها صدى لحياتهم داخل جدران السجن. 
 
الموسيقى في هذا العمل عنصر محوري تصاحب المشاهد بمقطوعات لحنية غنية بالمشاعر، تميل إلى الحزن والشجن، تُعزف بآلة الفلوت، وهذه الجمل اللحنية تُجسد "الصراع الداخلي للإنسان" المتمثل في السجناء وبروتوس بشكل خاص، وتتكرر الجملة اللحنية في الفيلم، وكل مرة " نرى فيها إضافة للمشهد السينمائي"، مما يُعزز من إحساس القدر والحتمية التي تُلائم قصص الشخصيات المأساوية. 
 
"قيصر يجب أن يموت" للأخوين تافياني تجربة سينمائية عميقة ومؤثرة، و ليس مجرد اقتباس لشكسبير، بل هو حوار بين العصور والثقافات والواقع والخيال، فالفيلم يؤكد على قدرة الفن على تجاوز الحواجز، على إيقاظ الوعي، وعلى تقديم لحظات من الكثافة الإنسانية حتى في أحلك الظروف، لكنه في الوقت نفسه يتركنا أمام سؤال وجودي: هل المعرفة بالحرية من خلال الفن تجعل القيود أكثر وطأة، أم أنها تمنح الروح القوة لمواجهة السجن الأبدي، حتى لو كان ذلك السجن هو الحياة نفسها؟
 
 
اعمال لشكسبير  (1)
اعمال لشكسبير (1)

اعمال لشكسبير  (2)
اعمال لشكسبير (2)

اعمال لشكسبير  (3)
اعمال لشكسبير (3)

اعمال لشكسبير  (4)
اعمال لشكسبير (4)

اعمال لشكسبير  (5)
اعمال لشكسبير (5)
 
وأود في هذا المقام أن أوجه أسمى معاني الشكر والعرفان لأستاذتي الفاضلة الدكتورة إيمان عز الدين، التي كان لها فضل كبير في تعميق فهمي لمفهوم المعالجات الدرامية، وفي فتح آفاق جديدة أمامي للتأمل في كيفية إعادة إنتاج النصوص الكلاسيكية برؤى مختلفة، لقد تعلمت منها أن النصوص العظيمة – مثل أعمال شكسبير – لا تعيش فقط بخلودها الفني، بل بما تمنحه من إمكانات لإعادة القراءة والتفسير والتأويل، وستبقى دروسها في مادة "المعالجات" علامة مضيئة في رحلتي الأكاديمية، ومصدر إلهام دائم لي.
 

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر