جمال عبد الناصر يكتب : ماجن إشبيلية .. من بلاط الملوك إلى مجتمع اليوم

ماجن إشبيلية .. من بلاط الملوك إلى مجتمع اليوم ماجن إشبيلية .. من بلاط الملوك إلى مجتمع اليوم
 
كتب : جمال عبد الناصر

 

ليس كل من يرفع صوته في وجه المجتمع متمردًا حقيقيًا؛ فثمة شخصيات تصرخ لا لأنها تبحث عن حرية، بل لأنها تستمد قوتها من امتيازاتها، وهكذا يكشف لنا النص الإسباني الكلاسيكي "ماجن أشبيلية" عن دون خوان لا ثائرًا ولا حالِمًا، بل مرآة لنفاق اجتماعي طبقي، ينهل من السلطة ويتستّر بالمغامرة، قبل أن يسقط في مواجهة العقاب الأبدي.

وتُعد شخصية "دون خوان" التي ابتدعها الكاتب المسرحي الإسباني تيرسو دي مولينا في مسرحيته الخالدة أيقونة أدبية وثقافية تجاوزت حدود الزمان والمكان، وحين نعود إلى نصوص القرن السابع عشر، نجد أن دون خوان ليس "المتمرد" الذي تغنّت به القراءات الرومانسية، بل هو نموذج اجتماعي يفضح ازدواجية طبقة أرستقراطية ترفع شعارات الشرف بينما تمارس نقيضها، وسقوطه إذن ليس قدرًا فرديًا، بل دينونة أخلاقية لمجتمع بأكمله.

شخصية "دون خوان" رمزًا عالميًا للمغامر الشهواني الذي يستهين بالقيم الأخلاقية والدينية، وقد اختلفت الآراء النقدية حول طبيعة هذه الشخصية الجدلية؛ فبينما يرى نقاد مثل: (إستر دي أوليبيرا) أنها نموذج للتمرد في ظل مجتمع إسباني مستبد ومتعصب دينياً، ينفي آخرون، كـ (إيجناسيو أريانو وفرانشيسكو رويث رامون ) سمة التمرد، معتبرين"دون خوان" ما هو إلا مرآة لمجتمعه، فنحن هنا أمام جدلية ثرية بالمناقشة، وتحتاج لقراءة وبحث في مفردات النص، وتأمل في الفترة التاريخية التي كتب فيها المؤلف المسرحية.

ماجن اشبيلية
ماجن اشبيلية

 

وفي هذا المقال، سوف انطلق من وجهة نظر ترى أن دون خوان ليس متمردا حقيقيًا، بل هو مرآة لعصره، وأفعاله في جوهرها انعكاس لعيوب مجتمعه وسلطته، فهو ليس متمردا أو ثائرًا يسعى للتغيير، وتمرده ليس أيديولوجيًا، بل هو نتاج لامتيازاته الاجتماعية التي تمنحه حصانة، ويستغل مكانته الاجتماعية ونفوذ عائلته لارتكاب أفعاله المشينة، ولم يفعل شيئا غريبا كل الغرابة على واقعه بل كان يعبرعن واقع مؤلم فيه التناقضات كلها، وسأناقش هذا الرأي من خلال تحليل جوانب النص.

بتأمل المشهد الافتتاحي للمسرحية، نري دون خوان يتسلل إلى حجرة الدوقة إيزابيل، مستغلًا الظلام وادعاءه أنه الدوق أوكتافيو، وعندما يُكتشف أمره، يتدخل عمه "دون بيدروتينوريو"، سفير إسبانيا، ليحميه من العقاب الملكي، ويقول الملك لدون بدرو: "دون بدرو، أكلفكم بهذا الأمر، فأنتم رغم قصركم طويل الباع، فانظر من يكون هذان الاثنان على أن يبقى ما تعرفه في السر"، ثم بعدها نجد هذا الحوار بين " دون خوان " وبين عمه " دون بدرو" :

دون بدرو : قل من أنت ؟ دون خوان : أنا ابن أخيك .دون بدرو : ( لنفسه ) يحدثني قلبي بخيانة..ماذا صنعت أيها العدو، أخبرني علي عجل. دون خوان : عمي وسيدي، أنني شاب ويوما ما كنت مثلي، من ثم تعرف أمور الحب، وحيث تضطرني لقول الحق، لقد فسقت بإيزابيل الدوقة وذقت عسلها. دون بدرو : كفي ! لكن كيف خدعتها ؟ دون خوان : ادعيت أنني الدوق أكتابيو...دون بدرو : لا تقل حرفا أكثر ( ثم لنفسه ) أنا ضائع لو عرف الملك، لابد من الحيلة .هذا الموقف الذي يمثل السلطة الملكية يكشف عن استعداد النظام للتسترعلى جرائم النبلاء للحفاظ على سمعة العائلة والمكانة السياسية، بدلاً من تطبيق العدالة، فدون بدرو قالها صريحة :"أنا ضائع لو عرف الملك، ولابد من الحيلة" وهذا يعد تواطؤ من قبل السلطة يمنح دون خوان شعورًا بالحصانة، ويعزز من سلوكه الطائش، فهو لا يتمرد على السلطة بمعناها السياسي أو الاجتماعي، بل يستغل ثغراتها ونقاط ضعفها لصالحه الشخصي، ودون خوان يستخدم نفس آلية الإغواء والخداع، ويكررها مرارًا، وهذا ما يؤكد ثبات أدواته السردية والسلوكية، فهو حينما تحدث مع صديقه عن "الغارة النسائية" كان يتباهى بغزواته، وهو ما يتجلى في حواره مع "الماركيز دي لا موتا" : دون خوان: سيدي الماركيز، اذا تركتموه لي سوف تري شجاعتيموتا : ارتدي عباءتي حتي تحسن شن الغارة دون خوان : لقد أحسنت القول، اصحبني لتريني بيتها موتا : أثناء الغارة حاول أن تقلد صوتي، وطريقة كلامي، هل تري تلك المشربية؟ دون خوان : نعم أراها موتا : إذن تحرك حتي هناك ونادي " بياتريس " ثم ادخل. 

ويُظهر هذا الحوار أن الغارة على المخدع كانت أمرا عاديا بين النبلاء، وكانوا يتشاركون فيها، فهي لم تكن جريمة أخلاقية تستدعي العقاب، وسلوك النبلاء تجاه النساء في هذه الفترة كان يعكس بوضوح النفاق الاجتماعي والقيمي للمجتمع الإسباني، فالمجتمع الذي يشدد على الشرف والعفة، ويفرض قيودًا صارمة على المرأة، هو نفسه الذي يسمح لشخص مثل دون خوان بالتحرك بحرية نسبية، مستغلاً بساطة الفلاحات (مثل تيسبيا وأمينتا) أو ضعف النبيلات (مثل إيزابيلا ودونا آنا)، وجميعهن يعدهن بالزواج، وهذه الوعود الكاذبة هي جزء من النسيج الاجتماعي الذي يسمح للرجال ذوي النفوذ بالتحايل على القواعد دون عواقب فورية، وتمرده هنا ليس ضد مفهوم الزواج أو الشرف بحد ذاته، بل ضد الالتزام بهما، وهو ما يعكس فسادًا أخلاقيًا متجذرًا في الطبقة الأرستقراطية وليس ثورة عليها.

الكاتب المسرحي الإسباني تيرسو دي مولينا
الكاتب المسرحي الإسباني تيرسو دي مولينا

ودراميا سنجد أن شخصية "دون خوان" لم تشهد تطورًا داخليًا حقيقيًا على مدار زمن المسرحية، بل حافظت على سلوكها وآلياتها النفسية والاجتماعية، من بداية النص حتى نهايته، دون أن تمر بمنحنى تطوري درامي على مستوى الضمير أو الفكر أو السلوك، وهذه إحدى السمات الفارقة في رسم الشخصية، والتي تؤكد توجه المؤلف نحو تقديم نموذج "لا بطولي"، بل متمسك بفساده، والأدلة على ثبات الشخصية أنه يمارس نفس أسلوب الإغواء والخداع، كما أن هناك حالة لا اكتراث بالعواقب، فلا تظهر على دون خوان أي علامات تأمل أو قلق داخلي، رغم معرفته المسبقة بخطورة أفعاله، فهو دائم التهرب بعد تنفيذ جرائمه، معتمداً على طبقته النبيلة كدرع للحماية، ويتصرف في كل مرة بالطريقة نفسها، سواء مع إيزابيلا أو تيسبيا أو دونيا آنا، كما أنه رافض لفكرة التوبة، وهي واحدة من أقوى المؤشرات على ثبات الشخصية، وجمودها أخلاقيًا وروحيًا، وبهذا تضع المسرحية أمامنا نموذجًا للعقاب الإلهي النهائي لا لفكرة التطهير، ويظهر ذلك جليا في المشهد الذي يقول فيه ( دون جونثالو ) لدون خوان  : " هذا قليل بالنسبة للنار التي عنها بحثت، معجزات الإله- دون خوان- قابلة للفهم، وهكذا أراد أن تدفع نظير ذنوبك علي يد ميت، وإذا دفعت هكذا فتلك عدالة الإله، فمثلما تفعل تحاسب"

وفي الختام سنجد أن تيرسو دي مولينا لم يقدم "دون خوان" ليحتفى به، بل ليُفضحه على خشبة المسرح أمام أعين المجتمع ذاته الذي أنتجه، ونهايته تأتي على يد تمثال القائد(دون جونثالو)، الذي يجسد العدالة الإلهية، والعقاب لم يتحقق إلا حين أساء دون جوان للمقدّس، فكان العقاب إلهيًا مباشرًا عبر ظهور تمثال الموتى الذي يقتص منه، فالعقاب لم يأتِ من المجتمع الإسباني نفسه، بل من قوة ميتافيزيقية، ولو كان دون خوان متمردًا حقيقيًا يهدد بنية المجتمع، لكان المجتمع نفسه قد قام بالقصاص منه، لكن بما أن العقاب جاء من مصدر خارجي وهو (التمثال)، فهذا يشير إلى أن المجتمع كان عاجزًا أو غير راغب في التعامل بفاعلية مع شخصية مثل دون خوان، وأن أفعاله، وإن كانت مدمرة للأفراد، لم تكن تهديدًا وجوديًا للنظام الاجتماعي أو السياسي القائم، بل كانت مرآة قبيحة لما يمكن أن ينتج عن تساهل السلطة وتفشي النفاق.

ولعل ما يجعل أسطورة «دون جوان» عصيّة على الموت، أنها لا تخص زمانًا بعينه، ولا مكانًا بعينه؛ فهي تتشكل في كل عصر بملامح جديدة، لكنها تحتفظ بجوهرها القديم: غواية، وخداع، وتواطؤ يفتح الأبواب للمذنب كي يفلت من الحساب. وإذا كان مولينا قد رآه ماجنًا في إشبيلية القرن السابع عشر، فإننا لا نزال نراه يتجول بيننا بأقنعة مختلفة، يتخفّى أحيانًا في سلطةٍ متغطرسة، وأحيانًا في ثراءٍ يشتري الصمت، وأحيانًا في وجوه عابرة تبيع الوهم باسم الحب. «دون جوان» لم يُطوَ في كتب التراث المسرحي؛ إنه ظلّ قائمًا بيننا، كجرس إنذار يذكّرنا بأن الخطيئة حين تتواطأ معها المجتمعات، تتحول إلى أسطورة خالدة، تخرج من المسرح لتسكن الحياة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه القراءة النقدية ليست مجرد مقالة تأملية، بل بحث أكاديمي أُنجز في إطار الدبلوم العام بقسم الدراما والنقد المسرحي، في مادة المسرح في العصور الوسطى وعصر النهضة، بإشراف الدكتورة مها العوضي، التي أضاءت بخبرتها مسارات هذا العمل.

مراجع المقال :

رويث رامون، فرانشيسكو (2002)/ تاريخ المسرح الإسباني (المجلد الأول)/ ترجمة السيد عبد الظاهر/ المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافةدي مولينا، تيرسو. (1999). ماجن أشبيلية/ ترجمة سليمان العطار/ مدريد (منشورات المعهد المصري للدراسات الإسلامية)أريانو، إيجناسيو. (مراجعات ودراسات نقدية حول تيرسو دي مولينا ودون خوان).دي أوليبيرا، إستر أبرو. (دراسات نقدية حول شخصية دون خوان).

 

 


اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر