رحلة زمنية ساحرة في رحاب وعالم الست أم كلثوم

جهاد الدينارى جهاد الدينارى
 
بقلم جهاد الدينارى
 
بمجرد أن تطأ قدميك المسرح ، تجد نفسك فى رحلة زمنية ساحرة تأخذك من ضجيج عالمك إلى سلطنة و " روقان" عالم " الست"، حيث لا يعلو صوت على صوتها، فيرتفع سقف طموحك من مسرحية " أم كلثوم" وترتفع أمالك فى قلم ورؤية مؤلفها ومنتجها د "مدحت العدل" ويرتفع معهم خوفك من أن تخدعك نوستالجيا الستينات التي تستقبلك خارج خشبة المسرح، وصور ومجسمات " كوكب الشرق" وأجواء لياليها وحفلاتها  وصوتها الذى يصاحبك أينما تذهب حتى تصل إلى مقعدك، وتخشى أن تكون هذه هي  " حلاوة البدايات"  التي يتحدثون عنها شباب العصر!! وهنا تجد نفسك أمام تخوف أخر حينما تتذكر هذا الجيل الذى يضع صناع العمل في مأزق وتحدى كبير ، وتبدأ الأسئلة تداهمك كيف لهذا العمل الفني الذى يتناول حياة واحدة من أهم مطربات الشرق إن لم تكن أهمهم ، أن يختلف عن ما سبقه من اعمال تناولت سيرتها الذاتية؟
 
كيف لهذا العمل "الميوزيكال "أن يقدم نموذجا مختلفاً لحياة " الست" يجذب جيل  "z" المطلع على فنون الغرب وتطوراتها وتقنياتها الحديثة، كيف لهذا العمل أن يسير على إيقاع جيل الخلق الضيق والبال القصير؟
 
كيف يضاهى هذا العرض جمال مراسم استقبال الجمهور ولا يكسر توقعاتهم ، وأن يقدم عملاُ فنياً له مذاق ليالى صاحبة العصمة؟
 
وبينما عقلك مشتت بين تلك الأسئلة تجد في خلفية المقعد الذى أمامك "QR code" يمكنك من خلاله الدخول أكثر وأكثر إلى عالم  " ثومة" والتعرف على شخصيات العرض وخلفياتها وحكايتها المختصرة والمتصلة بأم كلثوم، وكأنه دليل أو بطاقة تعريف تخاطب هذا الجيل الذى لا يعرف الكثير عن الست ويمهد له حكايتها قبل فتح الستار، هنا تدرك نوعاً ما بأن القائمين على هذا العمل مدركين طبيعة الجيل ، ويجيدون التواصل معه، ثم تأتى اللحظة التي من شأنها أن تجذبك الساعتين ونصف مدة العرض أو تصرفك عنه ، لحظة البداية التي فوجئ فيها الجمهور بأنه بالفعل في رحاب الست، التي حضرت بنفسها وتحدثت وغنت له من اللحظة الأولى، في مشهد مهيب لها ولحضورها المجسد عن طريق تقنية "الهولوجرام "أو الانعكاس الثلاثى الضوئي ، تلك التقنية الحديثة التي تستخدم في كبرى المسارح الغربية حضرت اليوم لتعلن من البداية أنه عرض مختلف ويحمل لنا الكثير من المفاجأت .
 
والحقيقة أن تلك التقنية لم تكن الوحيدة المستخدمة في هذا العرض فالذكاء الاصطناعى حاضر وبقوة، والمزج بينه وبين جسد الممثلين على خشبة المسرح واستخدامه في الخلفيات الثابتة والمتحركة قدم نموذجاً للمسرح العالمى المتطور على أرض مصر، وقدم نموذجاً أيضاً للمنتج الجريء الذى تحمل أعباء استخدام تلك التقنيات باهظة الثمن ليخرج عرضاً مسرحيا يتماشى مع عظمة " الست" ، مجازفة تحسب للمنتج د. مدحت العدل خاصة وأنه العمل الأول الذى يقوم بإنتاجه منفرداً، ولكن اعتقد حجم الحضور وازدحام شباك التذاكر مؤشرات مبدئية لنجاح رؤيته الانتاجية والحقيقة أن التطور لم يكن مختزلاً في هذا الذكاء الاصطناعى وحسب إنما الديكور أيضاً من العناصر التي أضافت ابهار بصرى للمشهد المسرحى وطرق تحريكه السريعة والرشيقة نقلتنا إلى تكنيك المونتاج السينمائى، فالإضاءة تناغمت مع الديكور لتنقلنا من مشهد لأخر وكأنك تشاهد عمل سينمائى خضع للمونتاج من قبل .
 
ولا يمكن هنا أن نغفل دور  " الملابس" في تكوين تلك الصورة المسرحية المتطورة للغاية، فلا تتعجب أن وجدت " منيرة المهدية" تصعد السلم بملابس المنزل، وتخرج من البوابة بفستان سواريه، ولا تندهش إذا وجدت أم كلثوم ترتدى جلباب وتتحدث مع أحد الأبطال ، وفى غمضة عين تخرج من الشاشات الخلفية بكامل أناقتها وبنظارتها ومنديلها الشهير، أما عبد الوهاب فلا مانع من أن يرتدى " الروب" وبخفة مطلقة تجده مرتدياً لبدلة " سموكى"، لا نعلم متى وكيف تمكن الأبطال من ارتداء تلك الملابس أو خلعها،؟ ولا يمكننا الإجابة على هذا السؤال بينما الوحيدة التي تملك السر هى الاستايلست " ريم العدل" مصممة ملابس المسرحية التي لم تكتف بتقديم نماذج لأزياء هذا العصر بحرافية كبيرة، إنما قررت أن تسير على نفس وتيرة الابهار البصرى التي حققها فريق العمل من البداية.
 
فكل هذه السمات والتقنيات أعتقد أنها كانت سبب في وجود نسبة كبيرة جداً من الشباب داخل صالة العرض، متحمسين ومشجعين ومتأثرين في أن واحد، أيضاً الإيقاع السريع الذى سرد الأحداث دون ملل ودون خلل ، فقدم المؤلف " مدحت العدل" المختصر المفيد وتنوعت سبل سرده بين المونولوج والديالوج والغناء والتابلوهات الراقصة الأمر الذى كتب لهذا العمل الاختلاف عن ما سبقه من أعمال تناولت السيرة الذاتية لكوكب الشرق، والمذهل هنا أنك تعرف الأحداث وعليم بالنهاية، ومدرك لقصة حب "أحمد رامى" و"أم كلثوم"، وحافظ حكايتها مع "السنباطى وزكريا وبليغ حمدى" عن ظهر قلب، إلا أنك تجد نفسك في انتظار الحدث بشغف وكأنك تتعرف عليه للمرة الأولى ، ربما الحالة المسرحية والنوستالجيا هي السبب في هذا الأحساس، وربما التقنيات الحديثة المبهرة وربما طرحه كعرض " ميوزكال" وربما كل تلك الأسباب تناغمت مع الأداء التمثيلى البديع لشباب كلهم لم يمارسون التمثيل من قبل، وتلاحمت مع تلك الأصوات الغنائية الشابة التى أعلنت عن صعود أصوات شبابية تحجز لنفسها أماكن وسط الكبار، والأغانى التي تخللت الأحداث وقامت بدور السرد في معظم الأحيان كمشهد المواجهة الغنائى التخيلى بين "أم كلثوم وأحمد رامى " والذى جعلنا نشعر بما شعر به رامى تجاه الست، ونقدر موقف " ثومة" من العلاقة  ونتعاطف مع زوجته، وكل هذا من خلال تابلوه غنائى استطاع أن ينقل الحالة خيراً من عشرات المشاهد الحوارية. 
 
وفي النهاية تجد أخيراً إجابة على كل الأسئلة التي دارت في رأسك قبل بداية العرض، وتتأكد من أنه عرضاً مختلف لم يخذل توقعاتك ولم تراوغ سرديته طموحاتك في الحصول على نموذج مسرحى يحترم سيرة الست ويحترم جمهورها  ويمد جسور الوصل بين ما هو قديم وما هو حديث، ويفتح فرصاً جديدة للرجوع لتراثنا الفني من وجهة نظر تكنولوجية وتقنية تروق للجيل الحالي وتواكب العصر، فاستطاع صناع العمل المخرج " أحمد فؤاد" ومدرب التمثيل " محمد مبروك" والقائمين على الاستعراض والتابلوهات الغنائية ، ومصمم الإضاءة ومهندس الديكور والممثلين وكل هؤلاء القائمين على العمل  بصحبة د. مدحت العدل أن يقدموا نموذج بديع لاحياء سيرة الست من خلال مسرح متطور منافس للمسرح العالمى ، لذلك إذا كان العرض يحمل عنوان  " دايبين في صوت الست" اعتقد أن رسالتى التي أحملها في نهاية المقال " أننا دايبين في قلم وفن مدحت العدل" .

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر