من رحم السينما العربية والعالمية، تبرز الممثلة والمخرجة الفلسطينية هيام عباس كواحدة من أكثر الوجوه حضوراً وتأثيراً، لأنها تحمل معها هوية شعب وذاكرة وطن، وتقدمها للعالم بلغة الفن التي لا تعرف حدوداً. تنتمي هيام عباس إلى تلك الفئة النادرة من الفنانات اللواتي حولن التجربة الفنية إلى حالة إنسانية وثقافية، تجمع بين الذاكرة الشخصية والتاريخ الجمعي للشعب الفلسطيني.
الفنانة التي سيتم تكريمها في الدورة المقبلة لـ مهرجان القاهرة السينمائي بجائزة الهرم الذهبي، ولدت عام 1960 في مدينة الناصرة، ودرست التصوير والمسرح في القدس، قبل أن تنتقل إلى باريس في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي لتبدأ رحلة استثنائية عبر السينما العالمية، حيث انطلقت مسيرتها السينمائية من فلسطين، حين شاركت عام 1996 في فيلم "حيفا" للمخرج رشيد مشهراوي، وهو العمل الذي شكل علامة فارقة في السينما الفلسطينية، لأنه أول فيلم يعرض باسم فلسطين بصفة رسمية في مهرجان كان السينمائية، وقدمت من خلاله شخصية "أم سعيد" التي تنبض بالواقع والإنسانية.
وفي السينما المصرية ظهرت مع المخرج يسري نصر الله في فيلم "باب الشمس العودة" عام 2004، ثم "باب الشمس الرحيل" عام 2006، حيث برعت في تجسيد دور "أم يونس" المرأة الفلسطينية المقهورة والمقاومة في آن واحد، مستعرض مأساة الشعب الفلسطيني خلال النكبة والهجرة القسرية، واستطاعت أن تنقل الوجع الفلسطيني إلى وجدان الجمهور العربي بلغة عميقة وبعيدة عن الخطابية.
حضور عربي وعالمي
هيام عباس التي تحجز مكانها في طليعة الفنانين العرب الذين يمثلون القضية الفلسطينية بلغة الفن، تتمتع بتلك الطاقة للتنقل بين الثقافات واللغات والأجيال المختلفة من المخرجين، إذ تعاونت مع أسماء عربية رائدة، منها إيليا سليمان في فيلم "يد إلهية"، والأخوان طرزان وعرب ناصر في فيلم "غزة مونامور"، والجنة الآن" لهاني أبو أسعد. كما شاركت في أفلام عالمية كبرى منها "ميونيخ" للمخرج ستيفن سبيلبرج، مؤيدة دور ماري كلود الهمشري، وفيلم "الزائر" لتوماس ماكارثي، و"بليد رانر 2049" إخراج دينيس فيلنوف. وامتد حضورها إلى الدراما العالمية من خلال مسلسلات حظيت بشهرة واسعة منها Succession "الخلافة".
تتعامل هيام مع الفن كفعل مقاومة وبحث عن معنى الوجود. فهي ترى أن السينما قادرة على حفظ الذاكرة الجماعية للشعوب المقهورة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، حسبما تؤكد في إحدى حواراتها الإعلامية، ولهذا، لم تكتف بالتمثيل، بل دخلت مجال الإخراج، وقدمت أفلاماً قصيرة، قبل أن تقدم فيلمها الطويل الأول "إرث" عام 2012، الذي تناول بأسلوب بصري وشاعري مسألة الهوية والمنفى والحنين إلى الأرض، وتولت بطولته إلى جانب التأليف والإخراج.
وداعا طبريا
الجانب الإنساني في حياة هيام عباس ظهر جليا في الفيلم الوثائقي "وداعا طبريا" الذي أخرجته ابنتها المخرجة والممثلة لينا سويلم، ويعد شهادة إنسانية على رحلة العائلة من بحيرة طبريا إلى المنفى. في هذا الفيلم، نرى هيام كامرأة تحمل ذاكرة أجيال من النساء الفلسطينيات اللواتي مررن بالتهجير والضياع والخوف، ومع ذلك احتفظن بالقوة والحكمة والإيمان بالهوية. إذ تقول ابنتها لينا في حوار صحفي عن علاقتها بوالدتها وجدها وجدتها إن الأم - هيام عباس - رغم قسوة التجارب، كانت ممتنة للصراعات التي خاضتها، لأنها صنعت منها امرأة مبدعة لا تعرف المستحيل.
يعد الفيلم بمثابة جسر للجمهور الغربي ليدرك أن القضية الفلسطينية ليست حدثاً سياسياً طارئاً، بل قصة إنسانية عميقة تمتد جذورها عبر عقود من النفي والمقاومة، وأن الفن قادر على إعادة سرد هذه القصة من منظور شخصي يلامس الإنسان قبل أن يخاطب السياسة. وعرض الفيلم في مهرجانات عدة منها مراكش، واستقبله الجمهور بالتصفيق وهتافات تحيا فلسطين، ما يعكس قدرة هيام على تحويل تجربتها الفردية إلى قصة تعبر حدود الجغرافيا.

هيام عباس
هيام عباس رمز لامرأة فلسطينية حملت هويتها بإرادة حرة، ورفضت أن تختصر في إطار سياسي أو قومي ضيق. فهي تؤمن بأن الفنان مسؤول أخلاقياً تجاه مجتمعه، لكنه في الوقت نفسه يمتلك حرية اختيار توقيت وكيفية التعبير عن قضيته. كما ترى أن الفن المحلي قادر على أن يصبح عالمياً حين يحتفظ بجذوره ويتحدث إلى العالم بلغة الصدق والإنسانية.
طوال مسيرتها، عملت عباس مع كبار المخرجين العالميين والعرب منهم أمثال ستيفن سبيلبرج، هاني أبو أسعد، تيرانس ماليك، ريدلي سكوت، دينيس فيلنوف، ويسري نصر الله. وأكسبتها هذه التجارب رؤية واسعة جعلتها تؤكد أن الفن ضرورة وجودية، وأن السينما وسيلة لإنقاذ الذاكرة من النسيان.