ليست مصر بلد التاريخ فحسب، بل هي بلد الحكاية الأولى، والنغمة الأولى، والظل الأول على جدار الوجود، وحين يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه، فهو لا يفتتح صرحًا أثريًا جديدًا، بل يعيد للعالم ذاكرة الفن الأولى، ويذكرنا أن المصري القديم لم يكن صانع حضارة فحسب، بل كان فنانًا بالفطرة، ومبدعًا بالقدر.
منذ فجر التاريخ، كانت جدران المعابد تُغنّي، والنقوش تهمس بألحان من الحجر، وكانت الموسيقى تُعزَف على قيثارة من البردي، وكانت المسرحية الأولى تُعرض في طقوس الإله أوزوريس، وكان المهندس المعماري شاعرًا، والنحات فيلسوفًا، والراقص كاهنًا للجمال، وهكذا صاغ المصري القديم وجوده بالفن، فامتزجت العقيدة بالجمال، والعلم بالخيال، ليولد مفهوم الفن كرسالة للخلود.
اليوم، ونحن نرى المتحف المصري الكبير شامخًا عند أقدام الأهرامات، ندرك أن ما يحدث ليس مجرد افتتاح، بل بعثٌ جديد لروح مصر القديمة، وتجسيد لحوار أبدي بين الماضي والمستقبل، فهنا تتجاور الحكايات، ويتحد الحجر بالنور، وتتجدد الأسئلة حول سرّ هذه البلاد التي علمت العالم كيف ينحت الضوء على جدار الزمن.
إن افتتاح هذا المتحف هو لحظة احتفاء بالفن ذاته؛ فمصر تُذكّر العالم بأن الحضارة ليست آثارًا تُعرض خلف الزجاج، بل روحًا تسري في كل ما يُبدَع ويُحَب ويُخلَّد.. إنها رسالة مصر الأبدية وهي أن الفن ليس رفاهية، بل هو شكل من أشكال الحياة، وأن من يعرف كيف يخلق الجمال لا يموت أبدًا، وكما قال أحد الحكماء: " في كل حجر مصري، موسيقى خفية، وفي كل تمثال، مسرح من الضوء، وفي كل جدار، قصيدة لم تُكتب بعد."
- وهكذا تتكلم مصر من جديد.. بلغتها الأبدية .. لغة الفن
اليوم، يحمل الفنانون المصريون شعلة أجدادهم في أيديهم، يواصلون ما بدأه القدماء من عمارة الجمال وبناء الوعي، ففي المسرح والموسيقى والسينما والتشكيل، تتجلى تلك الجينات الحضارية التي لا تنطفئ، ليظل الفنان المصري شاهدًا على أن روح طيبة ونفَس إخناتون وعظمة خوفو ما زالت تسكن وجدان هذا الشعب.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس فقط عودةً للماضي، بل انطلاقة نحو مستقبلٍ تُشرق فيه الفنون من قلب التاريخ، لتضيء دروب الغد.

جمال عبد الناصر يكتب