لم يكن عام 2025 عامًا عاديًا في ذاكرة الفن العربي، بل كان عامًا ثقيلاً، تتكئ أيامه على أخبار الرحيل، وتتعثر لياليه بأسماءٍ كنا نعتقد أنها باقية ما بقي الضوء، وكان عامًا يفتح ستاره كل مرة على تصفيقٍ صامت، ويُسدل مشاهده على وجوهٍ عرفناها تضحكنا، تبكينا، وتمنحنا معنى لما لا يُقال.
في هذا العام، لم يرحل الفن، بل رحل حراسه.. أولئك الذين حملوه على أكتافهم سنوات طويلة، وتركوا لنا أعمالهم كوصايا أخيرة ضد النسيان، ولم يكن فقط حصاد أعمار، بل حصاد ذاكرة كاملة، فيها المسرح يودّع سيدته، والموسيقى تفقد أحد أكثر أبنائها تمردًا وصدقًا، والدراما تفقد وجوهًا صنعت التفاصيل الصغيرة التي لا تُنسى.

نجوم رحلوا في عام 2025
لم يكن عام 2025 مجرد رقم في تقويم الزمن، بل كان عامًا مثقلاً بالفقد، عامًا بدا فيه الفن العربي وكأنه يسير ببطء، يتلفت خلفه، ويعدّ أسماء الذين مضوا واحدًا تلو الآخر، ففي هذا العام، لم تأتِ الوفاة كخبرٍ عابر، بل كجرس إنذارٍ طويل، يرنّ في ذاكرة المسرح والسينما والموسيقى، ويترك خلفه صدىً من الأسئلة عن المعنى والبقاء والذاكرة.
غاب الفنانون، لكن أعمالهم ظلت واقفة مثل شواهد ضوء، تقول لنا إن الإبداع لا يموت، وإن الذين أعطوا أعمارهم للفن لا يغيبون تمامًا، بل يتحولون إلى أثرٍ دائم في الوعي الجمعي.
كان الغياب الأكبر حين رحلت سميحة أيوب، سيدة المسرح العربي، التي لم تكن ممثلة فحسب، بل زمنًا كاملًا من الهيبة والانضباط والجلال الفني، وبرحيلها، انطفأ مصباح من مصابيح الخشبة العربية، وبدا المسرح وكأنه يتيتم فجأة، فاقدًا إحدى أكثر أياديه ثباتًا وصدقًا، تلك التي صنعت أجيالًا من الأداء والالتزام، وظلت حتى لحظاتها الأخيرة تؤمن بأن المسرح رسالة قبل أن يكون عرضًا.
ثم جاء الغياب الذي حمل وجعًا عربيًا مضاعفًا، برحيل محمد بكري، الفنان الفلسطيني الكبير، الذي لم يعرف الفن عنده طريقًا منفصلًا عن القضية، وكان صوته ممزوجًا بالأرض، وملامحه مشبعة بتاريخ المنفى والمقاومة، فصار حضوره الفني شهادة إنسانية قبل أن يكون أداءً تمثيليًا، ولم يكن ممثل أدوار بقدر ما كان حامل موقف، ودفع ثمن صدقه عزلةً وحصارًا وتشويهًا، لكنه رحل مرفوع الرأس، تاركًا أثرًا أخلاقيًا نادرًا في الفن العربي.
وفي صيف العام، جاء الرحيل الذي أصاب القلب الموسيقي العربي بصدمة عميقة، حين غاب زياد الرحباني، أحد أكثر الفنانين العرب اختلافًا وجرأة، ولم يكن مجرد موسيقار أو ملحن، بل كان مشروعًا فكريًا كاملًا، أعاد تعريف العلاقة بين الموسيقى والواقع، وبين المسرح والسياسة، وبين السخرية والألم، فبرحيله، بدا كأن صوتًا حرًا كان يزعج السكون قد صمت، تاركًا خلفه فراغًا لا يملؤه أحد.
ثم توالت لحظات الوداع لنجومٍ عرفهم الجمهور بصدقهم وقربهم من الناس، فرحل لطفي لبيب، ذلك الممثل الذي لم يحتج إلى بطولة مطلقة ليصبح حاضرًا في القلوب، فكان دائمًا صوت الحكمة الهادئة، وملامح الأب أو الصديق أو الإنسان البسيط الذي يشبهنا جميعًا، رحل راضيًا، كما قال، وكأن رضاه كان الخاتمة المنطقية لمسيرة مليئة بالحب والاحترام.
وجاء الرحيل المفاجئ لـسليمان عيد كصفعة قاسية، لأنه كان واحدًا من أولئك الذين اعتدنا أن يخففوا عنا ثقل الأيام، وغاب وهو في ذروة حضوره الفني، بعد عام حافل بالأعمال السينمائية والدرامية، ليترك فراغًا في مساحة الكوميديا التي لا تُقاس بالضحك فقط، بل بالقدرة على لمس الناس دون ادعاء.
وفي كواليس الصورة والحكاية، ودّعت الشاشة صُنّاعًا تركوا بصمتهم بعيدًا عن الأضواء، فرحل المخرج سامح عبد العزيز بعد مسيرة ارتبطت بالواقع الشعبي والإنساني، وكأن أعماله كانت محاولة دائمة لفهم الناس لا للحكم عليهم، ولحق به بعد شهور قليلة السيناريست أحمد عبد الله، أحد كتّاب السينما الأكثر قدرة على التقاط نبض الشارع، فبدت خسارتهما مزدوجة، كأن الحكاية فقدت من يكتبها ومن يراها.
رحلت سمية الألفي بهدوء يشبه حضورها الفني؛ ممثلة لم تصنع ضجيجًا، لكنها تركت أثرًا صادقًا في الذاكرة الدرامية والسينمائية. كانت من الوجوه التي أتقنت التعبير بالبساطة، وقدمت أدوار المرأة المصرية والعربية بصدق إنساني بعيد عن المبالغة. لم تكن تبحث عن البطولة بقدر ما كانت تبحث عن الحقيقة داخل الشخصية، فظل حضورها محببًا ومُطمئنًا، ومع رحيلها بدا المشهد الفني وكأنه فقد واحدة من ملامحه الهادئة التي لا تُعوّض.
أما طارق الأمير، فقد رحل تاركًا وراءه مسيرة فنية تعتمد على الالتزام والحضور المتوازن، ممثلًا عرفه الجمهور في أدوار متنوعة بين الدراما والمسرح، وكان دائم الحرص على احترام المهنة وعدم التعامل معها كوسيلة للشهرة السريعة. مثّل طارق الأمير نموذج الفنان الذي يعمل في صمت، ويؤمن بأن الفن فعل تراكم لا لحظة عابرة، فكان غيابه خسارة لطبقة كاملة من الفنانين الذين يصنعون العمود الفقري للمشهد الفني دون أن يتصدروا العناوين.
وكان الرحيل الأكثر قسوة وإنسانية هو غياب مدير التصوير تيمور تيمور، الذي رحل غرقًا وهو يحاول إنقاذ نجله، في مشهدٍ يشبه التراجيديا التي لا تحتاج إلى تمثيل، غاب وهو في أوج عطائه الفني، تاركًا صورة نقية عن فنان دفع حياته ثمنًا للإنسانية قبل الفن.
أما الوجوه التي عرفناها في الأدوار الثانوية والداعمة، فقد غابت هي الأخرى بصمت موجع، فرحل فكري صادق بعد أكثر من 300 عمل فني، مؤكدًا أن البطولة ليست حجم الدور بل صدقه، ورحل إحسان الترك بعد صراع مع المرض، وعماد محرم أحد وجوه السينما في الثمانينيات والتسعينيات، ونعيم عيسى بعد معاناة صحية طويلة، ليغيب جيل كامل من الجنود المجهولين في صناعة الفن.
وفي الغناء، جاء الرحيل فجائيًا وقاسيًا، وغاب المطرب أحمد عامر بأزمة قلبية مفاجئة، ثم غاب المطرب الشعبي إسماعيل الليثي في حادث سير مروّع، في عام لم يرحم الأصوات الشابة ولا منحها فرصة الاكتمال.
ولم يخلُ العام من نهايات صادمة لوجوه نسائية عرفها الجمهور، فرحلت إيناس النجار إثر أزمة صحية مفاجئة، ورحلت نيفين مندور في حادث مأساوي بحريق واختناق، لتؤكد 2025 أن الغياب لا يفرّق بين نجمٍ في الصدارة وآخر في الذاكرة.
هكذا مرّ عام 2025، عامًا لم يُطفئ الفن، لكنه أوجعه.. عامًا علّمنا أن المبدعين لا يموتون دفعة واحدة، بل يرحلون واحدًا واحدًا، تاركين لنا مسؤولية التذكر، ومسؤولية أن نحكي عنهم بوصفهم حياةً ممتدة، لا أخبارًا عابرة في نشرة وداع.
سميحة أيوب ، محمد البكري ، عام 2025 ، رحيل الفنانين ، سمية الألفي ، ايناس النجار ، سامح عبد العزيز ، إسماعيل الليثي