ليس من السهولة أن تكون عربيا فى وقت أصبح العرب إما منبوذين أو تحت طائلة الحرب أو مشتتين فى بقاع الأرض، ولا من السهول أن يكون العربى فلسطينى الجنسية حُكم عليه بأن ينفى من أرضه وبيته وبلده لينجو بحياته ولا يعرف سببا للأوضاع التى باتت فيها بلده، ولا من السهولة أن يصبح المرء كاتبا ومناضلا وصاحب قضية ولا رأى ولا قلم، فما بالك لو أصبح المرء عربيا فلسطينيا وكاتبا ومناضلا وصاحب رأى وقضية، هذا هو غسان كنفانى.
عاش كنفانى المولود فى 8 أبريل عام 1936، والذى تحل اليوم 8 يوليو ذكرى وفاته عام 1972، حياة قاسية، لم يهنأ سوى بـ9 أعوام فقط فى طفولته قضاها فى "حيفا" حتى هُجرت عائلته فى النزوح عام 1948، ليجد نفسه طفلا مجبرا على اللجوء مع عائلته فى لبنان ثم سوريا. عاش وعمل فى دمشق ثم فى الكويت وبعد ذلك فى بيروت منذ 1960 وحتى وفاته فى 1972.
ويبدو أنها كانت تقرأ رواية غسان "عائد إلى حيفا" حينما كانت فى رحلة قصيرة قادتها قدماها، الصحفية الفلسطينية منى العمرى وعبر سرد قصته فى صحيفة الأخبار اللبنانية، قالت العمرى التى كانت آخر من رأى بيت آل كنفانى فى حيفا بالقرب من الميناء، قبل أن يتهدم ويتحول إلى مكاتب لمجموعة من المحامين قالت العمرى: "فى 22 نوفمبر 2012، وفى صباح حيفا الباكر، خطر لى أن أذهب إلى بيت كنفانى. فقد مضى أكثر من أسبوعين على آخر زيارة لى. عندما أذهب إلى هناك، أشعر بتجدّد الخلايا فى داخلى.
أوقفت سيارتى أمام بيت جارهم عبد الرحمن الحاج (أول رئيس بلدية فى حيفا). سمعت صوت آلات الهدم وبعض الضجة من بيت كنفانى. تملّكنى الرعب ووقفت وراء شجرة زيتون، صوّرتهم يهدّمون أجزاء من البيت، ماذا سأفعل؟ من يعنيه هذا البيت؟ بمن أتصل؟ ماذا يفعل عبد اللطيف كنفانى وأحفاده الآن فى لبنان، مَن يخبرهم؟
عزمت على دخول البيت، وقررت أن أسألهم ماذا يفعلون؟ حتى لو كانوا من شركة «عميدار» (الشركة الوطنية الإسرائيلية للإسكان المسيطرة على أملاك الفلسطينيين المهجّرين). استجمعت قواى واتجهت نحو البيت. لا أسمع صوت خطواتى من شدة صوت آلات الهدم التى كانت تحفر قلبى أيضاً. بلغتُ أحد العمال بعدما تأكّدت أنّه عربى من سيارة العدّة الواقفة عند مدخل الدار وكُتب عليها من الخلف «صلوا ع النبي». لم يرنى لأنه مشغول بالهدم وسط ضجة عارمة، لوّحت بيدى أمام وجهه ليرانى، فأوقف آلة «الكونغو»".
وأكملت العمرى أن المقاول أخبرها ببيع المنزل وأنهم يقومون بترميمه وتحويله إلى مكاتب لمجموعة من المحامين. والتقطت العمرى آخر صورة لمنزل عائلة كنفانى وتحدّثت إلى المرأة اليهودية التى استولت عائلتها على البيت، سألتها أن كانت قد احتفظت بشىء من أثاث البيت أو ممتلكات العائلة، فقالت أن لديها «مطحنة القهوة» قالت أن جدّها أخبرها بأنهم حين استولوا على البيت كانت القهوة فى غلّايتها ما زالت ساخنة.
فى 15 شارع البرج الذى يقع فيه البيت، كان الحد الفاصل بين حيفا والحى اليهودى، ولذلك تحول إلى خط تماس فى عام النكبة. لجأت عائلته إلى عكا بسبب القصف والاعتداءات، ومن هناك نزحوا إلى لبنان.
فى 22 أبريل 1948، كانت قوات «الهاجاناه» الصهيونية تقصف شارع البرج من أعالى الهدار فى حيفا، فتشرّد سكان الشارع كبقية أهل المدينة وتركوا بيوتهم التى سيطرت عليها شركة «عميدار» الإسرائيلية. بعض البيوت هدمت وأقيمت مكانها مبان حكومية أو شُقّت الشوارع على أنقاضها، وبعضها الآخر مهجور أو معروض للبيع بمبالغ كبيرة.
صورة لعبداللطيف كنفانى