استأذن الأستاذ محمد حسنين هيكل، فى يوم مثل هذا قبل عامين 17 فبراير 2016، فى الانصراف من الدنيا، بعد 93 عاما عاشها الأستاذ، قضى أكثر من ثلاث أرباعها يكتب ويحلل ويتكلم، ينام مع الكلمة ويستيقظ مع الكلمة ويتشاجر مع الكلمة ويأكل ويشرب مع الكلمة.. كانت كلمته لا تشبه أحدا، ولا يشبهها كلمات.. بكلمته غير العالم وصار النموذج الأكمل للصحفى والكاتب ورئيس التحرير والأستاذ.
استئذان الأستاذ هيكل فى انصرافه الأخير من الدنيا، كان قد سبقه استئذان أول فى الانصراف عن الكتابة عام 2003، ساعتها قامت الدنيا ولم تقعد حتى عدل الاستاذ عن انصرافه، كتب وقتها يقول: "لقد كان يرد على بالى منذ سنوات أن الوقت يقترب من لحظة يمكن فيها لمحارب قديم أن يستأذن فى الإنصراف وظنى أن هذه اللحظة حل موعدها بالنسبة لي، ففى يوم من أيام هذا الشهر( سبتمبر2003) استوفيت عامى الثمانين وذلك قول شهادة الميلاد وهو دقيق- يومئ بحمد الله إلى عمر طويل مديد- لكن هناك مع ذلك قولا آخر أكثر صوابا هو حساب زمان العمل على مساحة العمر، والحقيقة أنه فى حالتى تواصل دون انقطاع لأكثر من ستين سنة (قرابة اثنتين وستين) لأن تجربتى معه بدأت بالتحديد يوم 8 فبراير 1942 حين رأى أستاذنا فى مادة جمع الأخبار أن يعرض على أربعة من تلاميذه-( تكرمت المقادير وكنت أحدهم)- فرصة التدريب العملى تحت إشرافه فى جريدة الإجيبشيان جازيت وهو يومها مدير تحريرها، وهى وقتها وبسبب ظروف الحرب وزحام الجيوش ـ أوسع الجرائد الصادرة فى مصر انتشارا (رغم لغتها الإنجليزية)، ثم عدل هيكل عن انصرافه الأول ليعيش 13 عاما بعدها، يواصل معركته فى الحياة بالكلمة.
وبعيدا عن الحديث فى أستاذية الأستاذ وعبقريته، فى ذكرى رحيله الثانية، أتذكر ما سرده مع الكاتب الكبير عادل حمودة، فى حواره الطويل معه عام 1995، عندما ذكر أن الذين أحبهم هيكل ودائما ما يتذكرهم الشاعر الكبير كامل الشناوى الذى ارتبط به أثناء التحاقه بأخبار اليوم فى مقتبل حياته الصحفية، والأديب البارز توفيق الحكيم، وكوكب الشرق أم كلثوم، والعندليب عبد الحليم حافظ، ومشايخ التلاوة الذين كان يستمع لهم فى رحاب سيدنا الحسين عندما كان طفلا، وبالطبع الزعيم جمال عبد الناصر، والنجم عادل إمام الذى ارتبط به بأواصر صداقة قوية جدا.
محمد حسنين هيكل كان يحترم السيدة روزاليوسف ويقدرها، رغم خلافاته مع ابنها الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، قال عنها: "كانت هذه السيدة ذات الشخصية القوية كريمة فى تشجيعها لصحفيين مبتدئين، ودعتنا إلى مائدتها مرات، ثم دعتنا إلى مجلتها وهناك كان لقائى الأول مع الصحافة العربية".
هيكل كان ذكيا ودبلوماسيا مثقفا، فعندما سرد قصته مع إحسان عبد القدوس لـ عادل حمودة فى كتابه "لعبة السلطة"، قال هيكل عن إحسان :"عرفته بمعنى رأيته، فحين وقعت عيناى عليه لأول مرة كنت تلميذا فى السنة الأولى وهو كان فى السنة الرابعة، كانت أعداد التلاميذ فى ذلك الزمان صغيرة وكان طابور الصباح فى فناء المدرسة المربع ملتقى لتجمع كل الفصول، وكان ترتيب الوقوف فى طابور الصباح يضع تلاميذ الصف الداخل الى المدرسة حديثا بالقرب الصف الذى يوشك على تركها فإحداهما بداية والأخر نهاية، ومع اضلاع المربع المصطفة فإن طرفى البداية والنهاية كانا على نقطة تماس وكان طابور الصباح يحتوى على مراسم طويلة من أناشيد وتمارين وتفتيش على مكواة المرايل السوداء فوق ملابس المدرسة، وعلى ترتيب الكتب والكراريس فى الحقيبة، وعلى نظافة الأظافر وبالطبع فإن هذا الطابور الذى اعتدنا على امتداداه قرابة نصف الساعة كل يوم، كان يتيح لكل زميل أن يلف بالبصر على بقية الصفوف وأن يعرف من فيها أو يعرف عنهم"، هكذا بقى هيكل النموذج الأبقى للصحفى والأستاذ والكاتب والدبلوماسى ورئيس التحرير وسيظل باقيا.