فى المهرجانات الكبرى مثل برلين (من 15 وحتى 25 من فبراير الجارى)_والتى تتواصل فعاليات دورته الـ68، لا تملك رفاهية لأى شىء سوى حجز تذاكر الأفلام أو الوقوف فى طابور طويل وممتد، لتصل إلى مقعدك، وتشاهد اختياراتك سواء فى أفلام المسابقة الرسمية أو البانوراما، أو الفورم، العروض تتواصل من التاسعة صباحا، وحتى الثانية عشر من منتصف الليل، فى أحيان كثيرة قد لا يستوعب البعض أن مهرجانا دوليا له ثقل سينمائي، وسياسي، يساوى التواجد فيه معسكر عمل صعب أن تلتقط أنفاسك، ذلك هو الحال مع مهرجان برلين السينمائى الدولى والذى رغم درجات الحرارة التى تصل فى بعض الأحيان إلى الصفر يبدو كخلية عمل صحفيين من كل أنحاء العالم، جمهور يتابع السينما بشغف حقيقي، ويبحث عن الثقافات الأخرى من خلال سينما تلك الدول.
ويعد برلين المهرجان الأكبر حول العالم من حيث أعداد الجماهير، تبرهن على ذلك أعداد تذاكر الدخول التى تم بيعها فى الآونة الأخيرة وتصل إلى 330000 تذكرة، وكذلك عدد زوار السينمات الذى تعدى النصف مليون زائر، وذلك طبقا لوسائل إعلام ألمانية، وهى المعلومات التى تمت ترجمتها، وتداولتها المواقع الإليكترونية.
وإذا كان مهرجان كان السينمائى الدولى يعد أضخم من حيث السوق والفعاليات كما ان مدينة اليخوت التى يقام بها، والطابع الأكثر تجارية وسياحية، ومهرجان فينسيا الذى يقام فى واحدة من أجمل مدن العالم، إلا أن مهرجان برلين أو "البريناله" كان ومنذ انطلاقته الأولى يحمل طابعا سياسيا، فقد تأسس فى عام ١٩٥١ ببرلين، مدينة الأطلال، باعتبارها "شاشة عرض للعالم الحر" و"سد ثقافى ضد البلشفية" وظلت على مدى عقود متأثر بالحرب الباردة، حتى بعد سقوط سُوَر برلين، ظل للمهرجان موقفا سياسيا واضحا، فى العديد من القضايا، لذلك من الطبيعى أن تجد فى حفل افتتاح المهرجان الذى أقيم (١٥ فبراير الجارى) مشاركة سياسية تمثلت فى الرئيس الاتحادى فرانك-فالتر شتاينماير ووزيرة الثقافة الاتحادية مونيكا جروترس وعمدة برلين ميشائيل مولر.
فيلم الافتتاح يسأل من يصنع الديكتاتور وماذا نريد أن نكون
لا يستطيع أحد أن يفصل ما تمر به ألمانيا ووجود عدد هائل من اللاجئين على أرضها، وبعض اختيارات إدارة المهرجان ونوعية المشاركات فى ظل سيطرة القومية والنزوح اليمينى للطبقات المجتمعية المتوسطة، والسؤال الذى أصبح حتميا حول ذلك الأخر الذى يعيش ضمن المجتمع الألمانى وكيفية استيعابه، فى ظل الاطرف الذى أصبح يحكم العالم، من خلال ذلك التساؤل يكون من الطبيعى أن تختار إدارة المهرجان افتتاح الدورة ال ٦٨ لمهرجان البرليناله بفيلم رسوم متحركة، فى سابقة هى الأولى من نوعها، ولم لا والمجتمع نفسه يتغير والأهم إن فيلم الافتتاح يطرح الكثير من التساؤلات حول، الديكتاتور وكيف تتم صناعته اضافة إلى التساؤل الانسانى الحتمى فى ظل الظرف الراهن حول "من نحن وماذا نريد أن نكون" بمعنى آخر هل ألمانيا فى ظل الظرف التاريخى الحالة، ستنتصر لقوميتها، أم لإنسانيتها وقدرتها على استيعاب الاخر أى كان وهذا ما يطرحه تماما المخرج وِيس آندرسون فى فيلمه بعنوان "Isle of Dogs" (جزيرة الكلاب).
ويتناول الفيلم قصة مدينة يابانية قررت ترحيل كل الكلاب فيها إلى جزيرة تستخدمها السلطات مكباً للنفايات بسبب تفشى مرض فى المدينة، يرى رئيس المدينة والمقربون منه، أن الكلاب هى المسئولة، دون غيرها من الكائنات عن تفشى هذا المرض، لذلك يتم ترحيلها إلى تلك الجزيرة، وهناك نشاهد مجتمعا آخر يتشكل، حتى بين الكلاب التى تم نفيها بقرار ديكتاتورى لم يفرق بين كلاب الشوارع أو تلك التى تربت فى المنازل وحتى كلاب الشو والتى يتم استخدامها فى الاستعراض، الديكتاتور وحاشيته قرروا نفى جنس كامل، لأنهم قرروا ان يروا ويُصدروا للمجتمع بأكمله تلك الرواية، وهناك فى مجتمع الكلاب نرى " كينج، ودوج، وتشيف، وبوس" والتنافس فيما بينهم على زعامة المجموعة، وبالتوازى نجد أن هناك طفلا هو "أتارى" يقرر الوقوف ضد قرار الديكتاتور، حيث يركب طائرته ويذهب إلى الجزيرة فى رحلة بحث عن كلبه "سبوتس" ثم يتتبع الفيلم المغامرات التى يخوضها الطفل "أتاري"، وأيضاً يشكل عدد من الأطفال من زملاء أتارى مجموعة تتمرد على ذلك القرار ويعلنون تضامنهم معه، ويضعون خطط لمساعدته وإنقاذه من مطاردات جنود الحكام والريبورتات التى يرسلها الحاكم إلى الجزيرة للقبض على الطفل وإعادته للمدينة، بخاصة وانه اتخذ قرارا بتسميم الكلاب.
السياسة حاضرة وبقوة فى كافة تفاصيل الفيلم، بدءا من تلك المدينة اليابانية التى نسجها المخرج والكاتب بخياله، وصولا إلى حركات التمرد والتى تؤتى ثمارها، لان حتى الكلاب ومعهم البطل الصغير يرفضون فكرة نفيهم، ويقررون العودة إلى المدينة والوقوف فى وجه هذا الحاكم، والمقربين منه.
الفيلم يحفل بشريط صوت متميز، عابها فقط أن بعض المشاهد كانت ناطقة باليابانية ولم يتم ترجمتها للإنجليزية، وايضاً الرسومات وفكرة الشخصيات اليابانية هى فكرة جيدة ومختلفة، لأنه تم الاستفادة من تلك الحالة فى شريط الصوت، وتفاصيل كثيرة من الحضارة اليابانية ظهرت بوضوح منها مصارعة السومو، ونمط الطعام.
ومن بين النجوم الذين قاموا بالأدوار الصوتية فى الفيلم براين كرانستون وبيل موراى وسكارليت جوهانسن وجريتا جيروج المرشحة لنيل أوسكارـ والفيلم هو واحد من بين 19 فيلماً تتنافس على جوائز الدب الذهبى والدب الفضى فى المهرجان، حيث انه تم اختياره ليكون فيلم الافتتاح إضافة إلى مشاركته فى المسابقة الرسمية للمهرجان.
الفيلم البرازيلى الأفضل فى عروض اليوم الأول
كما ذكرنا فى البداية مهرجان برلين دائماً ما يملك انحيازات واضحة فى العديد من القضايا، ويدعم ذلك أيضا موقف المهرجان من النقاش الدائر حول العنصرية الجنسية وما يتعلق "بهاشتاج #أنا أيضًا"، فهو من أوائل المهرجانات التى تحتفى بالمرأة وقضاياها ويتضح هذا من اختيارات الافلام حيث أظهر المهرجان وعيًا خاصًا بقضايا التحيُّز الجنسى بل وبـ "التمييز بشكل عام" وذلك وفقا للإحصائيات المتداولة إعلاميا أيضا حيث تُقَدَّر نسبة أفلام المخرجات من النساء بنحو الثلث، من مجموع الأفلام المقدمة.
وتشارك النساء فى مسابقة البرليناله بنحو سدس الأفلام تقريبًا، أى بـ4 أفلام من مجموع ٢٤ فيلمًا، كما نجد أن المخرجات النساء حصلن على 5 جوائز على مدار ٦٧ دورة من دورات البرليناله، آخرها كانت من نصيب المخرجة المجرية إيلديكو إنيدى فى عام ٢٠١٧ عن فيلم "عن الجسد والروح".
وما يدعم ذلك أيضا وجود نوعية مثل الفيلم البرازيلى The Heiresses بطولة الممثلة آنا بيرن ومارجريتا ايرن وآنا إيفانوفا ونيلدا جونزاليز والمخرج ماركيلو مارتنيس، والذى يعرض ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان ويبدو انه الأفضل حتى الان فى سباق عروض اليوم الاول، الفيلم يحمل الكثير من الجماليات، بدء من القضية التى اختارها، والشرائح العمرية لبطلات العمل فنحن أمام سيدتين تجاوزتا الخمسينات تشيلا وتيكيتا، يجمعهما منزل واحد، يمران بضائقة مالية البطلة الرئيسة والتى نفهم من سياق الأحداث انها صاحبة المنزل، تحمل بقايا شبابا وجمالا أخاذا، إلا أنها تبدو لنا ومنذ إطلالتها الأولى خائفة مترددة لا تستطيع اتخاذ أى قرار فى حياتها، لا تغادر غرفتها إلا لترسم لوحتها، وهى أيضا صاحبة طقوس منذ لحظة استيقاظها، فى حين أن رفيقتها تبدو أنها صاحبة الكلمة العليا فى كل شئ وهى التى تدير حياتها، داخل ذلك المنزل الملئ بالأثاث الفخم، والتحف والأنتيكات الموجودة فى جميع الأركان، ورغم جمالياتها إلا ان كل شئ يبدو ساكنا لا يتحرك حياة مليئة بالركود والخوف، ورغبة البطلة فى الانعزال لدرجة ان رفيقتها، التى تقرر بالاتفاق مع صديقة مشتركة ان يبيعا بعضا من الانتيكات فقط، لا تستطيع صاحبة المنزل الخروج لملاقاة الزبائن، بل دائماً ما تترك رفيقتها تقوم بذلك وتتلصص هى من وراء الباب، لذلك نجد زوايا الكاميرا دائماً ضيقة، والإضاءة قاتمة نوعا ما، كل شىء يوحى بأن تلك المرأة مسجونة داخل نفسها، وداخل منزلها الكبير المزدحم بالأساس الخالى من الروح.
ونكتشف أن العلاقة التى تربط بين الاثنتين هى علاقة حميمية، يعيشان معا، وتتحكم رفيقتها فى كل شئ، وهى التى دخلت المنزل كعاملة، وتحصل الرفيقة على حكم بالسجن لمدة شهر بسبب عدم سداد الفيزا كارت، وخلال هذا الشهر
تنقلب حياة البطلة رأسا على عقب، رغم أن رفيقتها أحضرت لها مربية تجلس فى المنزل، ودربتها على كل التفاصيل المتعلقة بصاحبة المنزل، وفى أحد الايام وبعد استيقاظها من النوم تأتى الخادمة، لتخبرها أن جارتها، تريد منها ان تقوم بتوصيلها بسيارتها، البطلة لا تصدق كيف ستخرج إلى الشارع وتقود السيارة، رغم عدم وجود رفيقتها بجوارها ومع أول خطوة لها بالسيارة مع جارتها العجوز، تتغير حياتها تماما، تجلس لتراقب هؤلاء السيدات العجائز فى خروجتهن اليومية للعب الورق بنادى يجمعهن، ويبدأوا هؤلاء السيدات اللاتى تقلهن البطلة فى إعطائها مقابل مادى، إلى ان تلمح البطلة من تدير هذا النادى شابة قد تكون فى الثلاثينيات من عمرها، يافعة تمتلئ بالحيوية، ومنذ اللحظة الاولى تشعر بالانجذاب نحوها، وتقاوم تلك الرغبة،
وطوال أحداث الفيلم لا نرى انعكاسا لوجه رجل واحد، كل الوجوه نراها من بعيد حتى هؤلاء الذين تعرفهم تلك الشابة والتى تعيش قصص متكررة من الفشل العاطفي، والرجل حاضر من خلال حكاوى السيدات المتقدمات فى العمر، هذه زوجها توفى نشاهدهم فى الجنازة، وأخرى زوجها فى المزرعة دائماً، حتى وجوه العمال الذين دخلوا المنزل لحمل بعض الاثاث الثقيل وتحديدا البيانو، أصر المخرج أن تكون زوايا التصوير بعيده عنهم، يتصدرها البيانو فى مقدمة الكادر،وتتصاعد المشاعر المكتومة ناحية تلك الشابة، والتى تبدأ فى الاعتماد على بطلة العمل فى تحركاتها بالسيارة،
يتحدثان معا عن الأب الغائب، والذى كان له تأثير فى حياة كل منهما، "بابيت "هو اسم الدلع الذى كان ينادى به الأب بطلة العمل وتناديها الفتاة ايضا به، وتتواصل حياة البطلة ما بين زيارة رفيقاتها فى السجن، وقضاء مشاوير زبائنها،
والشابة، إلى ان تبدأ البطلة فى التحرر من كل ما يثقلها، ولا تخشى افتقاد قطع الاثاث الغالية الثمن والثقيلة والفخمة، ومع تحرر روحها تتخلى واحدة بواحدة عندما ما يثقل روحها، وتخرج لملاقاة الزبائن، تعاود الرسم، إلى ان تحدث المواجهة بينها وبين الشابة التى تطلب منها الذهاب إلى منزلها من أجل ان يرتحا قليلا، بدل من انتظار باقى السيدات أصدقائهن للاتى يقدمن واجب العزاء، ويرغبن فى الجلوس لوقت أطول، الشابة التى تعرف جيدا رغبة البطلة فيها، ومشاعرها ناحيتها، فهل تستسلم هل تخون صديقتها؟ هل تتحرر وتنطلق بعيدا عن حياة مرسومة لها؟
فيلم The Heiresses أو " Las herederas" ينتمى إلى السينما الشاعرية فى كل تفاصيله، بناء الشخصيات اختيار الشريحة العمرية والتى نادرا ما نحد أفلام تتحدث عنها، ينتصر للحرية والحب، ويرصد برقة شديدة مشاعر الوحدة والعزلة ولا يخلو فى نفس الوقت من حس كوميدى يظهر فى مشاهد السجن وفى ظنى أن بطلته تنافس وبقوة على جائزة أحسن ممثلة.
الفيلم الثانى الأمريكى damsel جاء مخيبا لكل التوقعات ونال استهجان الحضور وانطلقت الصافرات بعد انتهاء العرض للتعبير عن خيبة الأمل فى مستواها، خاصة وانه فيلم اقرب إلى التجارية damsel للنجم الإنجليزى روبرت باتينسون، عن قصة شاب يبحث عن حب حياته فى منطقة الغرب الأمريكى وتشارك باتينسون، بطولة الفيلم، النجمة أسترالية المولد، ميا واسيكوسكا ولاقى استهجانا كبيرا.
وجاء الفيلم الثالث black47 متوسط القيمة فنيا أيضا وهو فيلم إنجليزى أيرلندي، تدور أحداثه فى ايرلندا ١٨٧٤عن مارتن فينى الذى يعود من أرض المعركة، ليبحث عن عائلته ليكتشف ان والدته ماتت بالحمى وشقيقه تم إعدامه، فى ظل ظلم ووطأة الاحتلال البيريطانى، لذلك يقرر الانتقام من كل ما تسبب فى ذلك، ويتحول مع مرور الأحداث إلى نموذج من روبن هود، حيث يكتسب تعاطف الفقراء وعدد من المقربين من السلطة فى نهاية الأحداث، الفيلم كلاسيكى فى بنائه ولا يحمل جديدا بل يبدو انه قريب لنوعية أفلام Brave heart.
يعرض المهرجان 385 فيلماً من جميع أنحاء العالم ويختتم المهرجان بمنح جوائز الدب مختلفة المستويات والتى يطمع فى الفوز بها جميع المشاركين، ويشار إلى أن "برليناله" يعتبر أكبر مهرجان للجمهور على مستوى العالم حيث يبيع 300 ألف تذكرة قبل انطلاقه.