نسير فى الحياة عبر رقعة كبيرة مقسمة بالتساوى إلى مربعات، بعضها ناصع البياض، وبعضها قاتم سوادها وعليها يقف البشر وفقا لقلوبهم، فمنا من منحه الله قلبا أبيض وسيرة عطرة فوضعه التاريخ فى موضعه على الرقعة البيضاء، ومنا من تملك السواد من قلبه فكانت الرقعة السوداء مصيره، وبين كل هذا نسوة أثرن فى الحياة خيرا وشرا ووقفن داخل الرقعتين أو تنقلن بينهما، ومن خلال هذه السلسة نحاول النظر إلى سيرتهن نظرة أخرى دون الحكم على واحدة منهن أو التأثر بإيمانها أو كفرها، فقط تناول سيرتها كأنثى أثرت فى الحياة ولكم وحدكم الحكم.
لا يمكن أن نتحدث عن النساء ودورهن عبر التاريخ دون ذكر الملكة شجر الدر حتى وإن كانت قد حصلت بالفعل على ما تستحق وأكثر من اهتمام بالغ فى التاريخ لسيرتها وتجربتها وتأثيرها على الحياة فى مصر فترة حكمها، وقد يكون ذلك نظرا لكونها وفقا لروايات البعض أول سيدة تحكم بعد الإسلام، كما أنها حكمت فى فترة تاريخية من أصعب الفترات وقت الحملات الصليبية، بالإضافة لكونها حكمت مصر بما لها قوة تاريخية وجغرافية وسط العالم، وكذلك كونها شهدت انتقال البلاد من الحكم الأيوبى لحكم المماليك، وهو ما قد يفسر الاهتمام الزائد بالسلطانة شجر الدر، وربما أيضا تكون التفاصيل الشخصية لحياتها هى السبب فى هذه المكانة فى التاريخ، نظرا لقصة صعودها من جارية فى قصر السلطان الصالح نجم الدين أيوب إلى ملكة منفردة بالحكم على عرش مصر، إلى نهاية شديدة الدراما بموتها ضربا بالقباقيب وما بين هذه المحاور الثلاث التى شكلت حياتها ومماتها من أحداث درامية كثيرة تدل على قدر كبير من الذكاء الممزوج بالمكر والجمال معا، وربما يفسر هذا أيضا كثرة المعلومات الواردة عن شجر الدر، حتى تلك المعلومات غير المؤكدة فقد وضعها لنا المؤرخون واحتمالاتها معا دون حسم.
أول ما اختلف عليه التاريخ هو أصل شجر الدر، فقالوا إنها شركسية الأصل، وتركية وأرمنية وخوارزمية؟!، وبعضهم قال إنها من البدو، لكن الثابت أن المؤرخين لم يضعوا إجابة واضحة لهذا السؤال، بينما أجمعوا على أنها كانت جارية عند السلطان نجم الدين أيوب، وكانت لها مكانة خاصة فى قلبه، فقد اشتراها وأنجب منها ولدا اسمه الخليل، وذلك قبل توليه الحكم، ووفقا لرواية ابن كثير عنها فإنها لم تفارقه وعانت معه أمورا كثير حتى إنها لم تتركه لما دخل السجن فى فلسطين، وعندما خرج وقرر الذهاب إلى مصر كانت معه أيضا، وفى القاهرة أعلن زواجها بعد أن تولى حكم مصر، وكانت تعاونه فى أمور الحكم، ويقول ابن كثير إنها كانت دائمة المشورة له وتنصحه بل وتملى عليه ما يفعل، فنصحت ببناء قلعة الروضة ونصحته أيضا بشراء المماليك الأقوياء ليكونوا سندا له ضد الغزوات والحملات الصليبية، وقد نفذ أيوب كل ما أشارت به، ويمكن القول إنها كانت تحكم من الباطن عوضا عن زوجها السلطان حتى إنها كانت تنوب عنه فى الحكم بشكل شرعى وعلى الملأ فى الفترات التى كان يسافر فيها، ومن هنا استطاعت أن تمرر جلوسها على عرش الملك منفردة، وأن تفرض نفوذها فى حياة زوجها وبرضاه على الجميع.
خلال هذه الفترة كانت الحملات الصليبية تشن هجمتها على مصر، فقد وصلت إلى مصر حملة شرسة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع الذى نزل بالقرب من دمياط، ويمكن الحسم بأن هذه الأيام كانت الأصعب فى حياة شجر الدر، حيث توفى زوجها نجم الدين أيوب الذى كان مريضا، فوجدت الملكة نفسها فى موقف لا تحسد عليه، مات زوجها الحاكم والمعركة قائمة مع الصليبيين والجيش لا يحتمل البلبلة والضغائن والشعب لا يريد إحباطا أو ضعفا فقررت بمنتهى القوة أن تخفى خبر وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب عن الجميع، وهو الموقف الذى سجله التاريخ كواحد من أقوى وأصعب المواقف، بل يصفه البعض بأنه الموقف الذى أنقذ مصر وعرشها من الحملات الصليبية، لكنها لم تخبر سوى ثلاثة أولهم طبيب نجم الدين الذى استدعته ليقوم بتغسيل الجثة وتكفينها، والثانى هو قائد الجيش الأمير فخر الدين يوسف، أما الثالث فكان رئيس القصر السلطانى الطوانى جمال الدين محسن، وقاموا بنقل الجثمان من المنصورة لقلعة الروضة، أما الملكة فظلت تأمر له بالطعام وتدخله غرفته حتى لا يشعر أحد بالأمر، كما كانت تصدر الأوامر باسمه وتكتب الخطابات وتختمها بختمه.
يمكن الحسم أن كل ما كان يشغل بال شجر الدر وقتها هو الانتصار على الصليبيين، فدفعت بالجنود ورسمت الخطط للمعركة، ثم أعلنت أن الملك مريض، وأرسلت فى طلب ولده توران شاه من الشام، وعندما حضر إلى القاهرة أعلنت أن الملك مات، وأوصى بتولى ابنه الحكم وظلت هى الوصية على توران شاه بحكم صغر سنه، فكانت هى الحاكم الفعلى، أما توران شاه فكان ينفذ خططها، ونجحت فى معركتها مع الصليبيين وحققت النصر، ووقتها هتف المصريون باسم شجر الدر وعزت مكانتها فى قلوبهم وكان الجميع على يقين بأنها هى من تحكم مصر وليس توران شاه، وهو ما أشعل نيران الغضب فى قلب السلطان الصغير فخطط للتخلص منها لكنها سبقته وأمرت بقتله، وفى روايات أخرى لم تأمر بقتله، وإنما قتله المماليك لما وجدوه غير مبال إلا بشهواته وملذاته فقتله المملوك عز الدين أيبك وقطز.
بايع المصريون شجر الدر على أنها ملكة مصر بعدما اجتمع كبار العلماء والمشايخ ورجال الدولة والأمراء وحكموا بأحقيتها فى تولى عرش الحكم، وهى النبؤة التى تحققت، فقد ذكر التاريخ أن فى حياة شجر الدر جارية تدعى مرجانة كانت بالأساس صديقتها منذ أن كانت السلطانة جارية عند نجم الدين، لكن الملك فضل شجر الدر عليها، فاشتعلت الغيرة فى قلب مرجانة المعروف عنها أنها ماهرة تجيد الحكى والقصص وتقرأ الفنجان وتطلق التنبؤات، وهو ما دفع شجر الدر لتقريبها منها فبقيت فى القصر كجارية لها، ولم تعترض مرجانة بل ظلت بالقرب تخطط للانتقام من شجر الدر التى أخذت منها نجم الدين، حتى بعد وفاتة ظلت فى مكانتها تملى على شجر الدر ما تفعل، ويقال إنها هى من أشارت عليها بقتل توران شاه والزواج من أيبك، كما أنها كانت سبب الفتنة بينهما فيما بعد.
اكتسبت شجر الدر رضا الشعب وأغدقت الأموال على المماليك لتضمن ولاءهم لكن الوضع لم يستمر طويلا، حيث أرسل الخليفة العباسى رسولا لأمراء مصر يخبرهم أنه غير راضٍ عن تولى امرأة الحكم، وقال ساخرا «إن لم يكن لديكم رجال فى مصر نرسل أحد رجالنا» هنا تعاملت شجر الدر كعادتها بذكاء شديد، فهى تعلم أن الأمر لن يمر مرور الكرام، ففكرت وقررت الزواج من رجل تتنازل له عن الحكم أمام الجميع، وفى الوقت ذاته تُمارس الحكم من خلاله، ووقع اختيارها على المملوك عز الدين أيبك فتزوجته ولأنها كانت الأقوى ومنذ البداية تخطط لاستمرارها فى الحكم من الباطن ظلت هى الحاكمة الفعلية للبلاد، وكانت لها الكلمة العليا فى علاقتها بزوجها حتى إنها منعته من رؤية زوجته الأولى وولده، هنا وجدت جاريتها مرجانة الفرصة فى التخلص من شجر الدر فأشارت على أيبك بالزواج من ابنة بدر الدين لؤلؤ، لإذلال الملكة وكسر عزها، وبالطبع شعرت السلطانة بإهانة كبيرة لكبريائها فقررت التخلص من أيبك وقتله وفعلت بمعاونة حراسها، وأعلنت وفاته فجأة لكن لم يصدقها أحد ثم حاولت بعدها الزواج لكن رفض كل من عرضت عليه الأمر خوفا منها، وهنا تدخلت مرجانة فى تحريض زوجة أيبك الأولى على الانتقام من شجر الدر ومهدت لها الطريق فأدخلتها القصر خلسة ودفعت للجوارى أموالا حتى يسمحن لزوجة أيبك بالدخول عليها فى الحمام وهى عارية وضربها على رأسها بالقباقيب حتى ماتت ميتة ذليلة لا تتناسب مع ذكائها وقوتها، بينما تقول روايات أخرى أن قطز هو من قتلها انتقاما لأيبك.