حين قــرّر الملك فاروق إرسال هدية فاخرة إلى الملك "جورج" السادس، ملك إنجلترا، لم يجد أفضل من إرسال مئة كيلو من شيكولاتة "جروبي"، فقد كان اسم "جروبي" وحده كفيـلا بإضفاء الفخامة والذوق والرُّقيّ على أي مُنتَج من منتجاته التي كان يحرص القصر الملكي وقصور باشاوات مصر على اقتنائها، خصوصا أنها كانت لأول مرة في مصر؛ كالكريم شانتيه، والمارون جلاسيه، والميل فوي، وغيرها من الحلويات الفرنسية والسويسرية والإيطالية.
البداية كانت في مارسيليا، تلك المدينة الفرنسية التي تعلّم فيها "جروبي" صناعة الحلويات والآيس كريم، لينتقل بعدها إلى مصر التي كانت - آنذاك - قبلة كثير من الخواجات والجاليات الأجنبية، إذ نجح الإنجليز في استقطابها بعد أن قاموا بتشجيع الاستثمار في مصر.
رحّب أقاربُ "جروبي" السويسريون الذين كانوا يمتلكون محلات " جيانولا" للحلويات بابنهم الذي كان يطمع في فرصة عمل جديدة بمصر الواعدة، فاستقبلوه وصار فردا عاملا معهم في القاهرة، لينتقل بعد ذلك إلى فرع "جيانولا" بشارع رودي فرانس بالإسكندرية، لأنه كان يضع في حساباته شراء هذا الفرع الصغير ليبدأ به رحلته المالية في مصر، وبالفعل في عام 1890يشتري "جروبي" هذا الفرع، ثم لا يكتفي بذلك بل ينشئ بالإسكندرية أيضا محلا جديدا بشارع شريف يحمل اسمه، وازداد الإقبال على منتجاته من الحلويات المبتكرة التي لم يكن المصريون يعرفونها وقتذاك، كالكريم شانتيه، والمارون جلاسيه.
وبعد سنوات قليلة يرجع "جروبي" مرة أخرى إلى وطنه بعد أن كوّن ثروة لا بأس بها، ولكن يشاء القدر أن يرجع الرجل مرة أخرى إلى مصر بعد أن خسر أمواله في سويسرا.
في مصر، وفي العام 1906، كانت الانطلاقة الثانية للخواجة "جروبي" وابنه "أكيلي"؛ فقد افتتح الأول محلا جديدا للحلويات في شارع عدلي، في ما افتتح الآخــر، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، محلا ثانيا في ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حاليّا)، وهوالأشهر؛ لأن "أكيلي" استطاع بعقلية الشباب استغلال فرصة إتقان صناعة الحلويات المبتكرة والآيس كريم، فكان آيس كريم جروبي هو الأول في مصر، كما جعل من محل الحلويات، الذي يحتل الدور الأرضي في عمارة "جوزيبي مازا" الشهيرة بوسط البلد، مكانا للبهجة والفن والوَنَس؛ فقد خصّص "أكيلي" صالة المحل الدائرية لتكون صالة رقص ومغنى، الأمر الذي جعل الإقبال يزداد على المحلّ، ولا سيما بعد اشتهاره بأنه ليس محل حلويات فقط، بل إنه قِبلة ثقافية وترويحية كبيرة، فقد حرص "أكيلي" على أن يجذب الطبقة الأرستقراطية وطبقة الفنانين من خلال استقدام بعض الفرق الموسيقية العالمية، كما حرص على عرض أحدث الأفلام السينمائية في حديقة الشاي التي تقع خلف المحل، الأمر الذي عزّّز مركز "جروبي" فكان الاختيار الأمثل للطبقة الأرستقراطية والأجانب المقيمين بمصر والفنانين، فيذكر مؤلف «الإخوان والعنف» أنّ "جروبي" كان ملتقى الصفوة ونجوم المجتمع، بالإضافة إلى أنه كان المقهى المفضّل لأبناء الطبقة الراقية من المصريين والأجانب المقيمين بالقاهرة، لذا خطّطت جماعة الإخوان لنسفه مع الجامعة والسكة الحديد، في عملية تخريبية، تم إحباطها في أكتوبر 1954!!
"جروبي" لم يكن محلَّ حلويات أو محلّين أو ثلاثة أو أربعة، "جروبي" كان مؤسسة غذائية وترفيهية وثقافية واقتصادية؛ فقد كانت تلك المؤسسة تمتلك مصنعا للآيس كريم والمثلجات، ومزرعتين حول القاهرة، ومعامل ألبان، وعمالة مصرية وسودانية وأجنبية تُقدّر بأكثر من ألفي عامل، بخلاف كونها ملتقى الفنانين والشعراء منذ نشأتها، فكان يقصدها عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان وفاتن حمامة وكامل الشناوي وأحمد رمزي ويوسف شاهين وعمر الشريف، وغيرهم.
مات "أكيلي" في حياة والده "جياكومو جروبي"، واستمرّ بعض أقاربه - بتوجيه منه - في إدارة المؤسسة، لكن تغيرت الظروف السياسية تماما، وانتقلت مصر من الملكية إلى الجمهورية، ومن حُسن حظّ (آل جروبي) أن قرارات التأميم لم تطالهم، حتى إن محل "جروبي" كان يعدّ بعض الوجبات والولائم والحفلات في عهد عبد الناصر.
هل هي صُدفة أم ترتيب وتخطيط أن تقوم الشركة العربية للأغذية، في العام 1981، بشراء محلات "جروبي" من ورثة أحفاد الجدّ الكبير؟!
صاحب ومؤسس تلك الشركة هو "عبد العظيم لقمة"، القيادي الإخواني الكبير، الذي كان في مقدمة الإخوان الهاربين من مصر إلى السعودية في عهد عبد الناصر، وأكبر مقاول من الباطن لشركة (المقاولون العرب - عثمان أحمد عثمان)، ولكن على أيّ حال فقد حافظ أولاده بعد وفاته على المحل وطرازه الكلاسيكي الفخم، كما حافظوا على أناقته ونظافته، وقبل كل أولئك فقد حافظوا على اسمه التاريخي.