الفنون جنون، فمن الفنون ما يصيب صاحبه ومحبه بالجنون بالفعل، وهو الحالة التي انطبقت على الشيخ أو المنشد أو الموسيقي الأشهر في تاريخ مصر والملقب ببيتهوفن العرب والشرق وأشهر من ألف وقدم وغنى ولحن الموشحات في الثلاثينات من القرن الماضي، الشيخ محمود صبح الذي يصادف اليوم 25 أبريل الذكرى الـ 76 لوفاته.
موهوب ومجنون و"تراللالي" كما وصفه بعض من تعامل معه، عزف وألف مقطوعات موسيقية عديدة، حياة "بالطول والعرض" بقدر ما كانت قصيرة تلك التي عاشها محمود صبح إذ توفي وهو في الثانية والأربعين من عمره، فقد كانت غنية ومليئة بالإبهار والموسيقى، والموشحات والأناشيد والسفريات والدراسات والأبحاث والمزج وغيرها.
ولد الشيخ محمود صبح عام 1898 بحوش الشرقاوى بالقاهرة لأسرة دينية فقد كان جده لوالدته من كبار علماء الأزهر وفقد بصره في الرابعة من عمره، إلا من ضوء خافت راح هو الآخر نتيجة عملية فاشلة في عينيه في سن الشباب، وعكف على قراءة القرآن الكريم حتى حفظه وهو دون العاشرة، بدأت مواهبه الفنية تظهر عندما كان يجمع الصبيان، ويكون منهم مجموعة لإنشاد الأغانى الشعبية والدينية وفى بيوت أسرة الدرى والفلكى، سمع آلة البيانو فعشقها وتدرب عليها كما تدرب على آلة العود.
بحسب الباحث زياد عساف في كتابه "المنسي في الغناء العربي" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، فإن الشيخ محود صبح تجلت مؤشرات نبوغه وحبه للموسيقى في السنوات الأولى من عمره إذ اعتاد ان يلمحه المارة مستلقيا على الأرض ويقرِّب أذنه باتجاه النحلة ليسمع زنينها إذ كان يشعر في صوتها موسيقى من نوع مختلف لايلمسها غيره، وكان "صبح" فور أن يبدأ العزف يجمع أبناء الحي والأطفال من حوله ليرددوا معه ما يحفظه من أغاني وأناشيد مألوفة آنذاك.
ويضيف "عساف" أن "محمود صبح" لم يكن شخصا تقليديا وكانت له من الأطباع والتصرفات الغريبة والممتعة في نفس الوقت وهو من نوعية الناس التي تغري وتحفز الكتَّاب والمؤلفين على الكتابة عنها وتحويلها لرواية أو فيلم أو مسلسل تلفزيوني على غرار ما نشاهده الآن، رغم فقدانه للبصر كان يمارس الألعاب الرياضية الصعبة مثل رفع الأثقال والملاكمة والمصارعة وكان يحلو له أن يركب الدراجة أحيانا ويسير في شوارع القاهرة مخاطبا المارة وهو يضرب بعصاه على الدراجة "وسَّع يا جدع للشيخ صبح"، وبقدر ما كان عصبي المزاج كان صاحب نكتة وجميل الطباع، واعتاد أن يغير من طبيعة ملابسه من فترة لأخرى فتخلى عن لبس الجبة والقفطان والعمه ليرتدي الطربوش وبعد ذلك بدأ يرتدي البدلات الأوروبية الحديثة في وقتها.
من خلال الإذاعات الأهلية التي انتشرت في مصر منتصف العشرينات من القرن الماضي وقبل أن تؤسس الإذاعة المصرية الأم 1934 تعرف الناس على الشيخ محمود صبح من خلال أغانيه وألحانه وطباعه، وكان البث الإذاعي يبدأ بصوته بتلاوته للقرآن الكريم ثم يؤدي بعض الابتهالات الدينية ويقدم بعدها مجموعة من أغانيه ثم يختم البث اليومي بتلاوة القرآن، وكثيرا ما كان يحلو له أن ينزل على درابزين الإذاعة "زحلقة".
ويروي عنه ومن خلال البرامج الإذاعية التي كان يقدمها على الهواء بأنه كان يعقد مواعيد مع أصدقائه ليحددوا موعد ومكان السهرة التي ستجمعهم تلك الليلة، وعند انتهائه من كل فقرة غنائية كان يخاطب المطربين المشهورين مثل عبد الوهاب وأم كلثوم متحديا لهم في أن يمتلكوا مقومات صوته ومخاطبا إياهم "سامع يا سي عبد الوهاب فين أنت من الفن ده .. سامعة يا أم كلثوم تعرفي تغني زي كده!"، وكانت النتيجة أن هاجمته مجلة روزاليوسف على صفحاتها انتقادا له على توظيفه للإذاعة بهذه الطريقة المستهنجة ولم يجد ذلك نفعا فوجه ردا لاذعا ومباشرا على الهواء للسيدة روزاليوسف شخصيا قائلا: "يا ولية افهمي ..دا أنا الشيخ صبح !".
الأديب نجيب محفوظ الذي عرف الشيخ محمود صبح عن قرب تحدث عن المشاجرات خفيفة الدم التي كان يمارسها على الهواء أيضا مع الموسيقار مدحت عاصم مؤكدا أنه كان صاحب مزاج مما أدى إلى وفاته نظرا لتناوله جرعة زائدة من المخدرات وكانت وفاته عام 1941 وبعمر 43 عاما.