"كوتسيكا" ليست مجرّد محطّة.. "كوتسيكا" تاريخ، تاريخ قد يُنسى لكنه بالتأكيد لن يزول.
بالقرب من طُرة، وفى عام 1893، اختار الخواجة اليونانى مسيو كوتسيكا مكانًا نائيا لإنشاء أوّل مصنع كحول (سبيرتو) فى مصر، وبإنشاء هذا المصنع تقدّمت صناعة الخمور فى مصر، وقتذاك، وساهم اليونانيون فى انتشارها وتطوّرها بسبب إنتاج السبيرتو وتوافُر وجوده فى مصر، فكان مصنع الخواجة "كوتسيكا" هو المصنع الوحيد الذى كان يوفّر للبارات ومعامل الخمور ومصانع الكولونيا مادة الكحول/ السبيرتو، فقد بلغ إجمالى ما يُنتجه المصنع نحو أربعة ملايين وثلاثمئة ألف كيلو جرام من السبيرتو.
لم يكن الخواجة "كوتسيكا" خواجة يونانيّا عاديّا؛ فالرجل كان واسع الثراء، إذ كانت ثروته بالملايين، ممّا جعله أثرى أثرياء الجالية اليونانية فى مصر، وقد توسّع فى خطوط الإنتاج، ليُنتج مصنعه القريب من طُرة النشا والجلوكوز أيضًا، وكان ذلك فى العام 1954، وبعد قرارات التأميم فى عام 1961 تمّ دمج المصنع ضمن عدة مصانع تمتلكها الشركة المصرية لصناعة النشا والجلوكوز، وأخيرا فى العام 2004 تمّ خصخصة الشركة لتشتريها مجموعة (أمريكانا).
كان الخواجة "كوتسيكا" مُحبّا للخير وتقديم التبرّعات والمساعدات، خصوصا الطبية، لخدمة المصريين واليونانيين على السواء؛ ففى عام 1916 تقريبا تبرّع لشراء أوّل سيارة إسعاف تخدم المرضى فى القاهرة، كما تحمّل بمفرده إنشاء المستشفى اليونانى الجديد بمنطقة "الحضرة" فى الإسكندرية، وكان هذا المستشفى عملاقا راقيا يقدّم خدماته الطبية والعلاجية الممتازة للجالية اليونانية الضخمة بالإسكندرية وكذا للمصريين، إلى أن تمّ تأميمه بعد ثورة 1952 ليصير اسمه مستشفى جمال عبد الناصر!
وفى جنازة مهيبة عظيمة، ودّع المصريون مع أعضاء الجالية اليونانية ملك السبيرتو المسيو "كوتسيكا"، بعد إذ وافته المنيّة عام 1962، بعد عام واحد فقط من تأميم مصنعه، فلم يتبقَ من تاريخه ومملكة الكحول التى أنشأها فى طُرة سوى محطة قطار/ مترو باسمه، لا يعرف مئات الآلاف ممن يمرّون عليها أو يهبطونها، يوميّا، سبب تسميتها بهذا الاسم الذى ينطقه أغلبهم "كوزيكا"، وأما المستشفى اليونانى الذى كان راقيا نظيفا كأحد أعظم وأكبر مستشفيات مصر والمنطقة وقتذاك، فلم يعُد باسمه، ولم يعُد - للأسف - راقيا!
كانت مصر فى ذلك الوقت بلدا "كوزموبوليتانيا"، تهضم معدته الغرباء، وتمنحهم شمسه سمار وادى النيل، ويمتزج أبناؤه فى صداقات وعلاقات جوار مع الأجانب، وقد كان اليونانيون على رأس أولئك الأجانب الذين أحبوا مصر، فأسّسوا فيها أعمالهم ومصانعهم وتجاراتهم وثقافاتهم، وحسب الأرقام الرسمية الآن، فإن إجمالى الاستثمارات اليونانية فى مصر يبلغ نحو 155 مليون دولار، تتوزّع على 160 مشروعا، فى مجالات الصناعة والسياحة والإنشاءات والخدمات والزراعة وغيرها، فهل من الممكن أن نرى اليوم الذى تتضاعف فيه حجم الاستثمارات اليونانية فى مصر مرة أخرى كما كان فى القرن الماضي؟! وهل من الممكن أن تعبق الثقافة اليونانية، من جديد، فى شوارع الإسكندرية والمنصورة وبورسعيد والزقازيق؟! وهل من الممكن أن نجد شاعرًا يونانيا شهيرا، كالشاعر العظيم "قسطنطين كفافيس"، يسكن فى الإسكندرية أو فى غيرها من مدن مصر؟!