الضاحك الباكى.. الكوميديان الحزين عاش مأساة إنسانية وأدى أدواره الضاحكة وقلبه يعتصر حزناً
- كان يعلم أن زوجته المريضة على موعد مع الموت خلال أيام.. وصعد المسرح بعد دفن والديه وشقيقه
- تحمل مسؤولية إخوته الأيتام وأطفاله الأربعة بعدما فقدوا الأم قبل أن يتجاوز عمر أصغرهم عاماً
- آخر وصاياه.. ولماذا قال لابنته «هيضربوكى بالطماطم» حين أرادت العمل بالفن
فى بيت عاش فيه جزءًا كبيرًا من حياته، وشهد كثيرًا من ذكرياته وأحزانه، تطل صوره من كل الأركان، تحمل ابتسامته المعتادة التى تخفى وراءها بئرًا من الأحزان، حاول أن يخفيها عن جماهير اعتادت أن تضحك وتسعد عندما تراه، فمن منا لا ينسى همومه حين يشاهد «عصفور» فى «سر طاقية الإخفاء»، وتذوب أحزانه وهو يتابع «سكر هانم»، وتعلو ضحكاته وهو يرى الشيخ «عبدالبر» فى فيلم «إسماعيل ياسين فى الأسطول»، و«محروس» وهو يقلد صوت هند رستم فى فيلم «إشاعة حب»، وخفة ظل المجنون فى فيلم «بين السما والأرض».
«اكتشفت أن كل رجل ضاحك رجل بائس، وأنه مقابل كل ضحكة على لسانه تفرقع مأساة داخل أحشائه، ومقابل كل ابتسامة ترتسم على شفتيه تنحدر دمعة داخل قلبه».. ينطبق هذا الوصف الذى ذكره الكاتب الساخر محمود السعدنى فى كتابة «المضحكون» على الفنان الراحل عبدالمنعم إبراهيم، فهو الكوميديان الحزين الذى أضحكنا وهو يغرق فى بئر الأحزان، ورسم البسمة على الوجوه وهو يتمزق ألمًا، وتسحقه المآسى والأحداث الحزينة، فكان كقطعة سكر تذوب وتتلاشى وهى تمنحنا حلاوتها، وصار كما وصفه السعدنى أقل المضحكين الكبار حظًا، كالياقوتة فى زنزانة مساجين يبحثون عن سيجارة، وكبئر بترول فى صحراء يبحث ساكنوها عن زجاجة مياه.
عبدالمنعم إبراهيم كنز وموهبة عبقرية، ربما لم يتم استغلالها الاستغلال الأمثل، رغم إمكانياته الهائلة، فملامحه الهادئة، ونظرة الحزن العميقة فى عينيه كانت تؤهله لأداء مزيد من الأدوار.
التقينا بابنته الكبرى سمية عبدالمنعم إبراهيم، جلست فى الشقة التى عاش فيها مع والدتها منذ عام 1958، وشهدت جدرانها سنوات سعادة قليلة قبل وفاة الأم المأساوية تاركة 4 أطفال لا يتجاوز عمر أصغرهم عامًا واحدًا. تفتح الابنة صندوق ذكريات وأسرار وأحزان والدها الكوميديان الحزين، وتكشف حجم المفارقات والمآسى التى مرت عليه، وحجم المسؤوليات التى أثقلت كاهله، وكيف أخفى أحزانه وأبدع فى أدواره الكوميدية رغم أنه أدى أغلبها وهو يعانى من أحزان تفوق قدرة البشر، فأضحكنا وهو يعرف أن زوجته على موعد قريب مع الموت، وصعد المسرح بعد دفن شقيقه ووالده، وتحمل مسؤوليات وأعباء أثقلت كاهله حتى مات واقفًا وهو يؤدى آخر أدواره، كما كشفت الابنة آخر وصايا والدها الراحل، وإلى نص الحوار..
حدثينا عن نشاة الوالد وطفولته؟
- والدى اسمه عبدالمنعم إبراهيم محمد حسن الدغبشى، ولد فى 24 أكتوبر عام 1924، وينتمى إلى قرية ميت بدر حلاوة، مركز سمنود، بمحافظة الغربية، ولكنه مولود بمحافظة بنى سويف بسبب ظروف عمل والده الذى كان يتنقل بين المحافظات، وعاش فى بنى سويف لمدة 3 سنوات، ثم انتقلت الأسرة لتسكن فى حى الحسين، ثم فى السيدة زينب، وظل جدى ووالدى مرتبطين بقريتنا ميت بدر حلاوة، وكان والدى يزورها كثيرًا، وأوصى بأن يدفن فيها، وبدأت مواهب أبى الفنية عندما كان والده يصحبه معه لمشاهدة مسرحيات على الكسار ونجيب الريحانى، وبدأ يمثل مع أقرانه فى القرية والمدرسة، والتحق بفريق الموسيقى والتمثيل بمدرسة عابدين الأميرية الابتدائية، كما تعلم العزف على البيانو.
وكيف شق طريقه فى عالم الفن؟
- بعد التحاق والدى بمدرسة الصنايع تعرف على عبدالمنعم مدبولى وعدلى كاسب، وكونوا ثالوثًا فنيًا، وقدموا بعض الأعمال المسرحية على مسرح الأزبكية سنة 1942، وبعدما تخرج والدى عمل فى وزارة المالية، واقترح عليه عبدالمنعم مدبولى الالتحاق بالمعهد العالى الفنون المسرحية بعد افتتاحه عام 1944، وكان المعهد سبق أن افتتح عام 1933 لكنه أغلق، فقال له والدى ننتظر حتى نتأكد أن المعهد سيستمر، وبالفعل التحقا بثانى دفعة، وكان المتقدمون للمعهد 1500 طالب، والمطلوب 20 فقط، واجتاز والدى كل الاختبارات حتى وصل إلى الاختبار النهائى، وكانت اللجنة مشكلة من عمالقة الفن وقتها، جورج أبيض، ونجيب الريحانى، وحسين رياض، ويوسف وهبى، وزكى طليمات، وقبل الامتحان الأخير توفيت والدته، ورغم ذلك ذهب واجتاز الامتحان بتفوق، وكان ضمن دفعته عبدالمنعم مدبولى، وشكرى سرحان، وتوفيق الدقن، وعدلى كاسب، وفريد شوقى، وأعجب زكى طليمات بموهبته وتمثيله ونصحه بالاستقالة من وزارة المالية والتفرغ للفن، وبالفعل احترف والدى الفن، واشتغل فترة فى مسرح إسماعيل ياسين، ثم التحق بالمسرح الحديث الذى أصبح المسرح القومى، ولم يتركه حتى وفاته.
ولماذا اتجه الوالد للأعمال الكوميدية، خاصة فى بدايته؟
- فى أثناء دراسته بالمعهد قام ببطولة مسرحية شعرية جادة، وعندما ظهر على المسرح ضحك الجمهور، فقال له زكى طليمات «إنت كوميديان يامنعم»، وبسبب نجاحه فى هذا الدور قرر طليمات انتقاله من الصف الأول إلى الصف الثانى بالمعهد دون اختبارات.
تفوق الوالد فى اختبارات المعهد رغم وفاة والدته أثناء هذه الاختبارات، حدثينا عن الأزمات التى تعرض لها بعد ذلك؟
- لم تكن هذه الأزمة الوحيدة التى تعرض لها والدى، فحياته سلسلة من المآسى والأزمات، ومع بدايته الفنية وأثناء قيامه بالمشاركة فى مسرحية «عيلة الدوغرى» توفى والده، ودفنه والدى وتحامل على أحزانه ووقف على المسرح فى اليوم نفسه، وكذلك عندما توفى شقيقه كان والدى يعرض مسرحية «سكة السلامة»، واضطر للوقوف على المسرح فى نفس اليوم، واعتاد والدى على إضحاك الناس بينما قلبه يبكى ويعانى من أحزان لا يتحملها أحد، وهو ما حدث أثناء مرض ووفاة أمى، وبعد وفاة والده تحمل أبى مسؤولية إخوته، لأنه كان الابن الأكبر، وله أخت وأخ أشقاء، و4 إخوة من الأب، وتولى رعايتهم جميعًا.
كانت قصة مرض ووفاة الزوجة من أكبر المآسى التى تعرض لها الوالد، حدثينا عن بداية التعارف والزواج؟
- تزوج والدى أثناء عمله بوزارة المالية وقبل أن يدخل المجال الفنى، حيث رشح له أحد أصدقائه خالتى، فذهب لرؤيتها ولكنه أعجب بشقيقتها، وبالفعل تزوجا وأنجب منها 3 بنات وولدًا، أنا أكبرهم ثم شقيقتاى سلوى وسهير وشقيقى طارق، وكان يحبها بشدة، وقبل أن يتجاوز عمر شقيقى الأصغر طارق عامًا واحدًا أصيبت أمى بالسرطان، وأكد الأطباء أنها لن تعيش أكثر من 6 أشهر، وكان هذا الحدث كالزلزال الذى هز كيان أبى، ورغم ذلك كان عليه أن يطمئنها ولا يخبرها بحقيقة مرضها، واصطحبها لأداء فريضة الحج، وكان لا ينام ولا يعرف ماذا سيكون مصيرنا، فأعمارنا كانت تتراوح بين عام وثمانية أعوام، وكانت هذه الفترة من أصعب أيام حياته، وظل يبكى كلما تذكرها حتى وفاته، ورغم قسوة هذه الفترة كان أبى يؤدى الأدوار الكوميدية التى تضحك الناس، وماتت أمى وتركتنا عام 1961.
وماذا فعل بعد وفاتها وأنتم فى هذه السن الصغيرة؟
- كانت من المفارقات الغريبة فى حياة أبى أنه تزوج خالتى التى ذهب لخطبتها قبل زواجه من أمى، حتى ترعانا، لكنه طلقها بعد 10 أيام، لأنه لم يستطع استكمال حياته معها، وكان سيصاب بانهيار عصبى لأنها كانت تشبه والدتى لدرجة كبيرة، وكان يناديها ويتحدث معها على أنها أمى، ولم يجد أبى حلًا سوى أن يلحقنى مع شقيقتىّ بمدرسة داخلية، وأخذت خالتى الكبرى شقيقى طارق ليعيش معها، وبعد ذلك تزوج من ماما عايدة، وهى سيدة لبنانية تولت رعايتنا، وأنجبت أختنا الصغرى نيفين، وتحمل عمى الراحل مسؤولية رعايتنا أثناء انشغال أبى بأعماله، وبعد وفاته أصيب أبى بصدمة شديدة.
وكيف كان يتعامل معكم بعد وفاة الأم وأنتم فى هذه السن؟
- كان الأب والأم والصديق، وبذل كل جهده لإسعادنا ورعايتنا، كما تحمل مسؤوليات شاقة فى رعاية إخوته، ورغم كل الإحزان التى مرت عليه كان يحب الحياة ويكره النكد، ويريد أن يرانا دائمًا نضحك ويحتفظ بابتسامته رغم المعاناة، وكان حليمًا راضيًا مؤمنًا بقضاء الله، وطيبًا وحنونًا جدًا مع الجميع، ولم يكن يشكو أو يفضفض.
وهل ترك شقيقه المتوفى أثناء تولى والدك رعايتهم؟
- شقيقه توفى قبل أن يتزوج، ولكن توفى زوج شقيقته وترك لها 6 أبناء، فتولى أبى مسؤوليتهم، بل أنه تحمل أيضًا مسؤولية رعاية حفيدة زوجة أبيه اليتيمة بعد وفاة والديها، وكان أبى يتحمل مسؤوليات شاقة لرعاية عائلة بأكملها.
وهل أثرت هذه المسؤوليات فى قبوله لكل الأدوار التى تعرض عليه، وهو ما أدى إلى قلة أدوار البطولة المطلقة فى حياته؟
- والدى قام ببطولة 6 أعمال سينمائية بطولة مطلقة، منها «سر طاقية الأخفاء»، و« سكر هانم»، لكنه حتى فى الدور الثانى الذى لعبه فى العديد من الأفلام لم يكن دوره ثانويًا أو مجرد حشو، بل كان دورًا أساسيًا له هدف ورسالة، وكان أبى بطلًا فى دوره، ولو تم حذف هذ الدور لم يكن هناك فيلم أو قصة، وهناك فنانون كبار كانوا يقومون بالأدوار الثانية وهم أبطال فى أدوارهم، منهم توفيق الدقن ومحمود المليجى.
وهل بالفعل تم حصره فى أدوار معينة كدور السيدة وصديق البطل؟
- تنوعت أدوار أبى طوال تاريخه الفنى، وقام بدور السيدة فى ثلاثة أفلام فقط، وعلى فترات متباعدة، وكانت أول مرة فى فيلم «لوكاندة المفاجآت» مع إسماعيل ياسين فى الخمسينيات، وبعدها فيلم «سكر هانم» فى الستينيات، ورفض والدى هذا الدور فى البداية، ولم يتوقع نجاحه لأنه يظهر طوال الفيلم فى هيئة سيدة، ولكن كمال الشناوى أقنعه بقبول الدور، وقال له أنت البطل الأساسى، وبالفعل حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا، والمرة الثالثة كانت فى فيلم «أضواء المدينة» الذى أدى فيه دور السيدة التركية وكان ذلك فى السبعينيات، ولم يعط والدى لأحد فرصة ليحصره فى دور معين، بدليل أنه شارك فى أعمال تراجيدية فى شبابه، وليس بعدما كبر فقط، فقدم أعمالًا متنوعة فى المسرح، منها «حلاق بغداد»، و«عيلة الدوغرى»، و«على جناح التبريزى»، و«سكة السلامة»، وبعدما كبر قدم عددًا من الروائع للتليفزيون، منها مسلسلا «أولاد آدم»، و«زينب والعرش»، وكان دائمًا يقول أن تضحك شخصًا أصعب بكثير من أن تبكيه، وكان يأخذ بطولات فى المسرح الذى أعطاه أكثر من السينما، التى اعتبرها أمرًا ثانويًا.
وهل وافق على أداء أدوار ضعيفة بسبب مسؤولياته الكبيرة وحاجته للمال؟
- أحيانًا، وكنت أسأله حين أرى دورًا لا يعجبنى لماذا قبلته، فيقول: «لازم أشتغل علشان عندى عيلة كبيرة وبيوت مفتوحة مسؤولة منى»، ومعظم الممثلين قد يقبلون أدوارًا لا تتناسب معهم مضطرين بسبب مسؤولياتهم إذا لم يطلبهم أحد، ووالدى كان يقول: «الفنان مثل الصنايعى، إذا طرق بابه من يطلبه سيعمل، وإذا لم يطرق بابه أحد فلن يعمل»، ورغم ذلك كان والدى ينتقى أدواره ولم أسمع منه أنه ندم على أى من أعماله.
ولماذا قال عنه الكاتب الساخر محمود السعدنى إنه أقل المضحكين حظًا، وإنه مثل ياقوتة فى زنزانة يحتاج من فيها إلى سجائر، وكبئر بترول فى صحراء يبحث من فيها عن زجاجة ماء؟
- قد يكون سبب هذه المقولة أن والدى كانت لديه إمكانيات أكبر وطاقة تمثيلية وإبداعية كبيرة لم تستغل كما يجب، وظهرت بعض هذه الإمكانيات خلال تعاونه مع المخرج فطين عبدالوهاب، كما أبدع أبى فى دور الشيخ الأزهرى، الذى ظهرت خلاله قدراته وإتقانه للغة العربية، واكتشف المخرج حسن الإمام مزيدًا من إمكانيات والدى عندما قدمه فى شخصية «ياسين» خلال ثلاثية نجيب محفوظ، وكان دورًا رائعًا ومختلفًا، وخلاله نشأت علاقة قوية مع نور الشريف الذى كان فى بداية مشواره الفنى، وقال لى بعد وفاة أبى: «والدك صاحب فضل علىّ»، مؤكدًا أنه خصص فصلًا كاملًا للحديث عن أبى فى كتاب عن قصة حياته.
ومَن أقرب أصدقائه من الوسط الفنى؟
- محمد رضا، رشدى أباظة، توفيق الدقن، عدلى كاسب، فريد الأطرش، شفيق نورالدين، وإبراهيم الشامى الذى كان آخر من تحدث معه تليفونيًا قبل وفاته، وكان والدى يفصل بين حياته الأسرية والفنية.
وماذا عن زواجه من الفنانة كوثر العسال؟
- أصيبت زوجته عايدة اللبنانية بسرطان الطحال، وخلال هذه الفترة تزوج والدى من الفنانة كوثر العسال، ولكنه لم يصارح ماما عايدة بهذا الزواج حتى وفاتها، حرصًا على مشاعرها، لأنها تولت رعايتنا وكانت صديقة لنا، وظل متزوجًا من العسال حوالى 20 عامًا حتى وفاته.
وما حقيقة وفاة ابنه الوحيد وهو على قيد الحياة؟
- هناك معلومات كثيرة خاطئة عن والدى يتم تداولها على الإنترنت، ومنها أن أخى طارق توفى وهو على قيد الحياة، والحقيقة أنه توفى عام 1998 أى بعد وفاة أبى بـ 11 عامًا، نتيجة ارتفاع فى السكر والضغط وانفجار الشرايين، وكان عمره لا يتجاوز 34 عامًا ولم يتزوج، ولو مات طارق فى حياة أبى كان سيموت حزنًا عليه، لأنه كان مرتبطًا به ارتباطًا شديدًا، كما يتم تداول معلومات خاطئة عن تاريخ ميلاد ووفاة والدى وأحداث حياته وأولاده، ومنها أنه لم ينجب سوى ابن واحد، وأن شقيقه مات وترك له 6 أبناء رغم أن عمى مات قبل أن يتزوج.
وهل ورث أحدكم الميول الفنية عنه؟
- والدى وضع شروطًا لدخولنا المجال الفنى، وعندما أراد رمسيس نجيب أن يسند دورًا لشقيقتى سهير فى فيلم «إمبراطورية ميم»، وهو الدور الذى لعبته ليلى حمادة، قال لها أبى: «لو عاوزه تمثلى إدخلى المعهد مفيش تمثيل من غير دراسة، لوعاوزه تنجحى فى حاجة لازم تدرسيها، والتمثيل موهبة، لو عندك موهبة الناس هتقبلك، ولو ماعندكيش هتاخدى بالشلوت وتضربى بالطماطم، ولن يشفع لك كونك ابنة عبدالمنعم إبراهيم»، ولم يصر أحد منا عل دخول المجال الفنى، ولكن ابنى أحمد قام ببعض الأدوار وهو طفل ولم يستمر.
وماذا عن علاقته بأحفاده؟
- ارتبط أبى ارتباطًا كبيرًا بأبنائى، أحمد وإيمان، لأنهما كانا أول الأحفاد، ولم يرَ أيًا من أبناء شقيقاتى لأنهم ولدوا بعد وفاته، وكنت قد حصلت على الماجستير بعدما أنهيت دراستى بكلية التجارة، لأننى أردت تحقيق أمنيته بأن يقول لى «يا دكتورة»، لأنه كان يتمنى أن ألتحق بكلية الطب أو الصيدلة ولكن مجموعى لم يؤهلنى، وكان والدى سعيدًا جدًا بعد حملى، ويقلد مشيتى ويضحك، قائلًا: «مش يمكن أعمل دور حامل»، وبعدما أنجبت أبنائى جاءتنى فرصة للعمل فى أحد البنوك، وأخذنى والدى لتسلّم العمل، وأثناء خروجى بكت ابنتى إيمان وكان عمرها 3 سنوات، فتأثر والدى ورفض أن أعمل، وبعدما كان ينادينى «يا دكتورة» أصبح ينادينى «أم أحمد»، ورغم أنه كان يغضب عندما نذهب له أثناء التصوير، ويسألنا «إيه اللى جابكم؟»، كان يفرح كثيرًا عندما أذهب إليه ومعى أبنائى، وكان يذهب إليهم فى المدارس، ويحضر معهم الحفلات والندوات.
وهل عاش الوالد فى هذه الشقة حتى وفاته؟
- هذه الشقة اختارتها أمى، وكان أبى يقول دائمًا: «أمك عاملة لى عمل فى الشقة دى»، وعندما ماتت أغلقها أبى لفترة ولم يستطع البقاء بها، وسكن فى شقة بشارع جامعة الدول العربية بعد زواجه من ماما عايدة، التى كانت تغار عليه، فوالدى كان «دنجوان» وله الكثير من المعجبات، وصممت على ترك شقة جامعة الدول العربية وجاءت لتسكن معه فى هذه الشقة بالمنيل، وعاش أبى هنا حتى وفاته، وكانت سناء جميل وخيرية أحمد تسكنان نفس العمارة.
حدثينا عن وصاياه وآخر أيام حياته؟
- كان أبى يشعر بدنو الأجل، رغم أنه لم يمرض مرضًا شديدًا، وحزن جدًا لوفاة أصدقائه الذين ماتوا قبله، خاصة الفنان محمد رضا، وكان يقول «دورنا قرب»، وأوصانا بأن تخرج جنازته من المسرح القومى لأنه كان يعشق المسرح ويعتبره بيته، وأن ندفنه فى قريته، ميت بدر حلاوة، التى أقام فيها مقبرة حتى نظل مرتبطين بمسقط رأسه طوال حياتنا، وكان يعمل حتى آخر أيام حياته، وعندما أصيب بمياه على الرئة ودخل الرعاية المركزة، صمم على الخروج رغم رفض الأطباء، وانفعل لأنه كان مرتبطًا بمواعيد تصوير، وقال للطبيب: «لازم أخرج، المنتج هيتخرب بيته لأنه حاجز الاستديو ودافع دم قلبه»، وأثناء قيامه بدوره فى مسلسل «أولاد» كنا نأخذ الطبيب ليعطيه الحقن خلال التصوير، وبعدها بشهر وفى أثناء عرض مسرحية «5 نجوم» على مسرح السلام، قال لشقيقتى سهير فى أحد الأيام: «أنا سددت فلوس الجزار والبقال وليس علينا أى أموال لحد»، وقال لعمتى التى جاءت لزيارتنا «نفسى آكل الرز بتاعك»، فطبخته وأكل منه، ثم دخل لينام ساعة قبل نزوله للمسرح، ودخلت أختى سهير لتستأذنه بالخروج، فانتفض، وقال لها: «إزاى ماتصحنيش الساعة 7 وعندى مسرح»، وارتدى ملابسه بسرعة، وبمجرد نزوله نادانا عامل الجراج، حيث وقع والدى وطلب كوب ماء، واصطحبناه بسرعة للطبيب الذى أوصانا بنقله فورًا للمستشفى، ولكنه توفى فى 17 نوفمبر ونفذنا وصيته، فخرجت جنازته من المسرح القومى ودفن بقريته فى 19 نوفمبر 1987 إلى جوار والده ووالدته وشقيقه.
وهل كان يحلم بأداء أدوار معينة؟
- كان يتمنى أن يقدم مسرحية «البخيل» لموليير، وبدأ يجهزها مع سميحة أيوب لكن القدر لم يمهله.
وهل كتب الوالد مذكراته؟
- لا، ولكن كتبت أنا قصة حياته من خلال معايشتى له وحكايات عماتى وحواراته، ولو أراد أحد أن يقدمها فى عمل درامى سيكون هذا بشروط، حتى لا يصوروا والدى زير نساء بسبب كثرة معجباته.
وفى نهاية حوارها معنا بكت ابنة الكوميديان الحزين وهى تراه فى أحد البرامج التى يحكى فيها قصة حياته، وقالت: الكل يحسدون أبناء الفنانين لأنهم يرون آباءهم ويسمعونهم فى أعمالهم الفنية بعد وفاتهم، وسمعت الكثيرين يقولون «يابختك بتشوفيه»، رغم أن هذا أصعب شىء على النفس، فأنا أراه وأسمعه ولا أستطيع التواصل معه، «بابقى عاوزة أكلمه وأسأله»، وأحزن وأشعر بالندم لأننى لم أجلس وأستمع له أكثر ولم أدرك عظمته وقيمته إلا بعد وفاته، ولذلك نعمل فى جمعية أبناء الفنانين لتكريم آبائنا والحفاظ على تاريخهم، فكلنا نشعر بأننا قصرنا معهم.