(1)
وهذه بهجة من نوعٍ آخـرَ، بهجة "مُحرّمة" عند كثيرين، لكنها على أى حال بهجة لذيذة، تصنع "الوَنَــس" فى الليالى والأماسى والأفراح وأسمار الشتاء والصيف، وبعد وجبات الكباب والكُفتة الثقيلة!
بهجة اسمُها "ســـتيلا"؛ ماركة شعبية مصرية مُسجّلة منذ خمسينيات القرن الماضى، حفرت اسمها على زجاجة رشيقة خضراء، قبل أن تحفر وتنقش اسمها فى قلوب "الشّرّيبة" وأصحاب المزاج العالى، حتى صدق عليها اسم "مشروب العائلة المفضّل"، كما فى إعلانات زمان الشيّقة، التى لم تعرف النفاق أو "التابـو" الدينى الممجوج!
منذ القِدَم، عرِف المصريون القدماء النبيذ، وكانوا ينتجونه من عصير العنب المصرى المُخمّر أو من منقوع وعَرَق البلح، ولم يخلُ بيتٌ مصرى قديم من أوانى النبيذ التى كانت تُقدّم إلى الأضياف، من باب الترحيب بهم، فكان النبيذ عند المصرى القديم غذاءً وبهجة وعلامة على الكرَم فى الوقت نفسه.
(2)
بالتأكيد، بعد انتشار الإسلام فى مصر، تقلّص إنتاج النبيذ فى مصر، ربما لم يكن يُنتِجه - وقتذاك - سوى بعض المصريين ممّن لم يعتنقوا الإسلام، لكن المؤكّد أن صناعته لم تندثر فى يوم ما، وكيف تندثر وهى إرثٌ تاريخى شعبى استقرّ فى أذهان المصريين أنه إرثُ البهجة والوَنَــس، فضلًا عن فوائده فى الهضم وإدرار البول وتنظيف الكُلى؟!
وفى العصور الوسيطة، ربما فى نحو القرن الخامس عشر الميلادى، كان لابدّ للمصريين من بهجة تُعينهم على عذاباتهم وأوجاعهم، وتُنسيهم، ولو لبعض الوقت، ما يُقاسونه فى أيامهم من أوجاع سياسية واقتصادية واجتماعية، فكانت "البُوظة" كلمة السرّ كمشروب شعبى بسيط يُحضّر من تخمير الشعير، واتُّخِذت لها الدكاكين ذات المصاطب، فارتادها المصريون وأنِســوا بها، لتنتشر بعد ذلك تلك الدكاكين وتتطوّر فى مدن مصر، بل فى بعض قُراها رغمًا عن أنف التحريم الفقهى الذى كان لها بالمرصاد، ولعل كاتبنا العظيم الراحل "نجيب محفوظ" أبرز أدبائنا فى الإشارة إلى دكاكين "البوظة" فى أعماله الروائية التى أرُخت أدبيا وفنيا للحياة السياسية والاجتماعية فى مصرَ منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.
(3)
كانت مدينة الإسكندرية هى البداية؛ ففى العام 1897 اختارها مستثمرون من بلجيكا لتكون حاضنة لأول مصنع "بيرة" فى مصر، وكان اسم المصنع "كراون"، وفى العام التالى 1898 أسّسوا فى القاهرة، مع مستثمرين آخرين، مصنعا آخــرَ اسمه "بيراميد"، ومع مرور السنين لم تستقرّ ملكية المصنعين فى يد البلجيكيين وحدهم، بل انتقلت إلى سويسريين ثم فرنسيين، لتستقر بعد ذلك فى الأربعينيات من القرن الماضى فى يد هولنديين يمتلكون اسما تجاريا مشهورا فى أوروبا هو(هاينيكن)، وقد حرصوا على تغيير اسم المصنع فى القاهرة باسم عربى ليكون اسمه "الأهرام"، واستطاعوا النهوض جديّا بصناعة "البيرة" المصرية من خلال الوصول إلى تركيبة ممتازة لها من الشعير المصرى والخميرة المستورَدة، كما نجحوا فى تسويقها وانتشارها من خلال الإعلانات الشيّقة الذكية التى ساعدت على تسويق هذا المُنتَج الشعبى، فكانت حقبة الخمسينيات أشهر حقبة لبيرة "ستيلا" وعلامتها التجارية (النجمة) المميّزة.
وفى أوائل الستينيات، تمّ تأميم صناعة البيرة فى مصر، ليتم دمج مصنعى الإسكندرية والقاهرة (كراون - الأهرام)، وعلى الرغم من ذلك ظلّ اسم "ستيلا" علامة شعبية مميزة للبيرة الخفيفة ذات الإنتاج المصرى، فاستمرّت مبيعاتها كما هى، ربما حتى حقبة السبعينيات، ولم تتراجع إلا فى حقبتى الثمانينيات والتسعينيات، حتى تمّ خصخصتها، ومن الصُّدَف العجيبة أن تشترى مجموعة (هاينيكن) الهولندية فى العام 2002 شركة الأهرام للمشروبات من جديد، بعد إذْ لمست مدى تمتّع اسم "ستيلا" بالثقة القديمة نفسها لدى المصريين "الشّرّيبة".
(4)
صنَعَتْ "ستيلا" البهجة والوَنَــس فى نفوس المصريين منذ عقود طويلة جدًّا، فكافأها المصريون بأن حافظوا على اسمها وعلامتها التجارية من الاندثار، فكانت - ولمّا تزل - رفيقتهم فى أماسيهم وأفراحهم، يصنعون بها بهجة يتوقون إليها ليتغلّبوا على أيامهم الصعبة، فشراؤها قديمًا كان واجبًا وطنيا لتشجيع المُنتَج المصرى، وشراؤها حديثا كرفيق للأوقاتِ السعيدة التى يغمرها "الوَنَــس".