أشرف حسن البارودى يكشف أسرار والده شيخ الممثلين..
لماذا ضحى بحبه وأسرار علاقته بأم كلثوم وخطاب أصابه بالاكتئاب..
وبكى على المسرح وأخذ رغيفين من بقايا طعام فندق
أسرع الابن العائد من السفر إلى غرفة أبيه الذى ينازع الموت، وحوله عدد كبير من زملائه عمالقة الفن بفرقة يوسف وهبى والمسرح القومى، ومنهم أمينة رزق، وتوفيق الدقن ومحمود المليجى وغيرهم، بعضهم يقرأ القرآن، بينما لا يتمالك البعض الآخر دموعه وهم يرون بابا حسن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ينظر الأب إلى ابنه، ويفهم الابن أن والده لديه شىء يريد أن يوصيه به قبل موته، فينحنى ليقبله ويتمتم فى أذنه وهو يظنه سيوصيه بوالدته وشقيقاته: «عاوز حاجة يا بابا»، فيرد الأب بصوت ضعيف: «خللى بالك من حبايبى دول وخللى الود معاهم موصول، دول عشرة عمرى وولادى واخواتى ابقى اسأل عليهم من بعدى».. يبكى الجميع وتنساب دموع الابن، بينما يغمض الفنان العملاق حسن البارودى عينيه ويمر أمامه مشوار حياته الفنية الذى بدأ قبل أكثر من 65 عاما حين وقف ليلقى خطبة عصماء بصوته المميز أمام سعد زغلول فى مدرسة عابدين الثانوية قبل ثورة 1919، يبتسم حين يتذكر إعجاب زعيم الأمة به ونبوءته التى لم تتحقق بأن يصبح صاحب هذا الصوت محاميا شهيرا، يمر أمامه مشوار نجاحات وصلت للعالمية وتضحيات ورفاق فارقوا الدنيا، ثم يدخل فى نوبة هذيان وهو يستقبل الموت، وينادى على صديق عمره حسين رياض الذى توفى قبله بما يقرب من 10 سنوات «وحشتنى ياحسين أنا جايلك يا حبيبى».. ثم تصعد روحه إلى بارئها.
يتذكر الابن هذه اللحظات فى حياة أبيه كما نتذكر جميعا مصطلحاته وأدواره الخالدة التى لا تنسى، كلمات عم مدبولى الطيب فى رائعة «يوسف شاهين» باب الحديد: «قناوى يابنى.. البس بدلة الفرح.. هاجوزك هنومة»، وعباراته التى تجسد النفاق السياسى الذى يرتدى عباءة الدين فى كل العصور وهو يتحدث إلى الفلاح الفقير أبوالعلا فى فيلم الزوجة الثانية: «العمدة عاوز يناسبك يا أبوالعلا.. انطاع يا ابنى إحنا غلابة.. طلق فاطمة واتجوز غيرها البلد مليانة بنات حلوة.. ده ربنا بيقول وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم».. ومئات الأدوار المسرحية والسينمائية والإذاعية، إضافة إلى اختياره للمشاركة فى عدد من الأفلام العالمية بعد إعجاب المخرجين الأجانب بصوته وطريقة أدائه المميزة وقوته فى التمثيل وإتقانه للغة الإنجليزية.
وصفته أم كلثوم بأنه أكثر الأصوات التى تعجبها، قائلة «حسن البارودى يغنى على المسرح بتعبيراته وقوة صوته»، بينما قال عنه المخرج الأمريكى «جورج راتوف» «إن صوته يساوى مليون جنيه».
فى الحوار التالى نتحدث مع الدكتور أشرف حسن البارودى، الأستاذ بكلية السياحة والفنادق ورئيس لجنة الأمم المتحدة لحفظ التراث، والذى يحمل كثيرا من صفات أبيه فى الالتزام والدقة والحرص على حسن المظهر، ليكشف تفاصيل وأسرار حياة والده شيخ الفنانين حسن البارودى، ومشوار تألقه الفنى، ووصوله للعالمية وعلاقته بكوكب الشرق أم كلثوم وسبب تخليه عن حبه الأول، وأسباب اكتئابه فى نهاية حياته.. ومزيدا من الأسرار والتفاصيل،
وإلى نص الحوار:
حدثنا عن طفولة الوالد ونشأته؟
والدى من مواليد حى الحلمية بالقاهرة فى 19 نوفمبر عام 1898، واسمه بالكامل حسن محمود حسانين البارودى، وترتيبه الثانى بين إخوته وله أخ أكبر وشقيقتان أصغر منه، وكان والده يعمل مترجما بشركة توماس كوك، وكان أبى يتقن اللغة الإنجليزية إتقانا شديدا، حيث تعلم فى مدرسة الأمريكان، وبدأت مواهبه الفنية منذ الطفولة، فكان لديهم بيت فى عابدين وكانت به شقة خالية يجمع فيها أبناء الجيران ويضع خشبة وكأنها مسرحا، ويمثل لهم العديد من الأدوار، حتى أن والده عندما أراد أن يؤجر الشقة كان أبى يقف مع أبناء الجيران ليقابل المستأجرين مدعيا أنه تم تأجير الشقة، أو يتحدث عن أنها مسكونة بالعفاريت حتى يطفش الزبائن وتظل الشقة خالية ليمارس هوايته فيها، إضافة إلى كونه رئيسا لفريق التمثيل بالمدرسة.
وماذا عن لقائه فى الطفولة بالزعيم سعد زغلول والحديث الذى دار بينهما؟
كان والدى يتقن اللغة العربية، كما يتقن الإنجليزية وعندما كان عمره 15 عاما اختاره مدرس اللغة العربية ليلقى كلمة أمام سعد زغلول الذى جاء فى زيارة للمدرسة، وبعدما انتهى من إلقاء الخطبة ناداه سعد باشا وسلم عليه، وقال له صوتك حسن مثل اسمك ومؤثر وقوى ومقنع، ولو عملت محاميا ستكون محاميا بارعا وتكسب القضايا اللى بتترافع فيها وممكن تاخذ البراءة من أول مرة، ورغم سعادة والدى بهذه الكلمات إلا أنه ظل حلم التمثيل يراوده ولم يفكر فى غيره.
ومتى بدأ مشواره الفنى؟
بدأ والدى حياته العملية مترجمًا فى شركة توماس كوك، ولكنه لم يكمل فى هذا المجال وأراد أن يعمل بالفن، فالتحق عام 1920 بفرقة حافظ نجيب، وبعدها بفرقة فاطمة رشدى وجورج أبيض، وفى عام 1923 تقدم للعمل بفرقة رمسيس التى كونها يوسف وهبى مع عزيز عيد، ولكن عرض عليه يوسف وهبى أن يعمل كملقن لاكتمال عدد أفراد الفرقة، ووافق والدى على أمل أن تأتيه فرصة للتمثيل ويقف على خشبة المسرح، وكان فى هذا الوقت يترجم مسرحيات يوسف وهبى لقوته فى اللغة الإنجليزية، وتحقق حلمه فى التمثيل عندما غاب استيفان روستى عن تمثيل دوره فى مسرحية «غادة الكاميليا»، فأُسند يوسف وهبى الدور لأبى وأداه بنجاح كبير، فطلب منه يوسف وهبى الاستمرار فى تمثيله، ورفع أجره من 12 إلى 25 جنيها، وكان أبى يخفى عن والده أنه يعمل بالفن، ولكن لاحظ جدى أنه يخرج ليلا، وعندما ضيق الخناق على والدى اعترف بأنه يعمل فى فرقة يوسف وهبى، وكان جدى يظن أنه لا يحصل على عائد فأخبره أبى أنه يحصل على راتب قدره 12 جنيها وهو أكبر من الراتب الذى يتقاضاه والده من شركة توماس كوك، واصطحب والده معه ليشاهده وهو يمثل فوافق والده على عمله بالتمثيل.
حدثنا عن رحلة تألقه بعد التحاقه بفرقة يوسف وهبى؟
شارك والدى فى أكثر من 200 مسرحية خلال مشواره الفنى، وكان يعشق المسرح، وفى عام 1934 كون فرقة مسرحية وكان من بين أعضائها نجمة إبراهيم، محمود المليجى، عباس فارس، وطاف بها محافظات مصر حتى وصل إلى السودان واستقر بها عدة سنوات، وحقق نجاحات كبيرة، ثم عاد إلى مصر وإلى فرقة يوسف وهبى عام 1944، حتى التحق بالفرقة القومية التى أصبحت فيما بعد المسرح القومى عام 1951 براتب 16 جنيها، وظل يعمل به حتى إحالته للمعاش عام 1965، ولكن للأسف معظم المسرحيات لم يتم تسجيلها، ومن مسرحياته المسجلة «القضية- السبنسة- كوبرى الناموس- سكة السلامة- بداية ونهاية- كرسى الاعتراف».
وكانت بداية والدى فى السينما عندما شارك عام 1920 فى فيلم ابن الشعب وتوالت أعماله السينمائية حتى وصلت إلى 100 فيلم من روائع السينما المصرية والعربية والعالمية، وشارك فيها عمالقة الفن ومنها باب الحديد- الزوجة الثانية- الطريق- أمير الدهاء- حسن ونعيمة- جعلونى مجرما- زقاق المدق- هجرة الرسول- درب المهابيل- الشيماء- جريمة حب- بلال مؤذن الرسول- رسالة إلى الله- لحن الوفاء- الأم القاتلة- أقوى من الحب- الطريق»، وآخر فيلم شارك فيه فى نفس العام الذى توفى فيه وهو فيلم العصفور ليوسف شاهين سنة 1974.
وماذا عن أعماله التليفزيونية والإذاعية؟
سجل للتليفزيون فى رمضان برنامج البنورة المسحورة 30 حلقة، وكان من أنجح البرامج، فكانت الشوارع تخلو من الناس وقت الحلقة وفاز البرنامج فى استطلاع لرأى المشاهدين كأفضل عمل فى التليفزيون، كما سجل للإذاعة ما يقرب من 540 حلقة من كتاب الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى، وكان برنامج يومى يقوم فيه والدى بدور الأصفهانى ويتحدث فى بداية الحلقة ونهايتها، وشارك فى هذا البرنامج كل ممثلى مصر.
شارك الوالد فى ثلاثة أفلام عالمية فحدثنا عن هذه التجربة؟
فى نهاية الخمسينات جاء الممثل شارلتون هيستون ومعه المنتج يبحثون عن ممثل عربى بمواصفات محددة، للمشاركة فى فيلم الخرطوم، وشاهدوا عددا من الأفلام العربية حتى وقع اختيارهم على أبى وحددوا معه موعدا، وكان معهم مترجم ولكن فوجئوا بأن والدى يتقن اللغة الإنجليزية بطلاقة وبلهجة كلهجة الإنجليز، حتى أنهم سألوه إن كانت له جذور إنجليزية وبالفعل شارك أبى فى الفيلم، وفى فيلمين آخرين هما فيلم «ثلاث قصص مصرية»، والفيلم الألمانى «روميل يغزو القاهرة».
كان صوت الوالد مميزا بدرجة كبيرة، فحدثنا عن هذا التميز وتأثيره؟
كان صوت أبى أحد مميزاته الفنية، وقال عنه المخرج الأمريكى «جورج راتوف»، «إن صوته يساوى مليون جنيه» وعندما سألوا أم كلثوم عن أكثر صوت يعجبها من الممثلين، قالت: «حسن البارودى يغنى على المسرح بصوته وتعبيراته»، وقال عنه الناقد الراحل عبدالفتاح البارودى فى عموده بالأخبار «للنقد فقط»- وهو بالمناسبة ليس قريبه ولكن يجمعهما تشابه الأسماء: «لم يكن حسن البارودى الفتى الوسيم ومع ذلك أوصلته قيمته الفنية إلى مستوى النجم الأول فى أى فيلم أو أى مسرحية حتى ولو كان يؤدى دور كومبارس، وجعلته موهبته فارسا من فرسان الزمن الجميل».
وكان أبى يتقن اللغة العربية إتقانا شديدا ويغضب من الأخطاء اللغوية، حتى أنه كان يجلس ليستمع إلى نشرات الأخبار فى الإذاعة والتليفزيون، ويغضب عندما يلاحظ أخطاء لغوية فى قراءة المذيعين والمذيعات، ويجمع هذه الأخطاء ويكتبها ويرسلها فى خطابات لمسؤولى الإذاعة والتليفزيون حتى يتم تلافيها، كما كان يحفظ القرآن كاملا ويرتله بصوت مميز لم أسمع مثله، وعندما علم المخرجين بتميزه فى قراءة القرآن كانوا يعرضون علية تلاوة السور القرآنية فى الأفلام الدينية القديمة.
ولكن رغم هذه الموهبة والقدرات الفنية والشهرة العالمية لم يكن للوالد أدوار بطولة مطلقة؟
والدى حتى وإن كان يقوم بأدوار ثانية أو ثالثة، إلا أنها دائما تكون أدوارًا محورية وتترك بصمة ورسالة قوية، ولازالت عباراته تحفظها الأجيال حتى الذين لم يروه، فمثلا عبر عن شخصية رجل الدين المنافق فى شخصية الشيخ مبروك بفيلم الزوجة الثانية، ولا زال الشباب يستخدمون عباراته فى الكوميكس، وبرع فى تقديم شخصيات مختلفة فقدم شخصية اليهودى المرابى فى فيلم هجرة الرسول، وعم مدبولى الطيب فى فيلم باب الحديد، ورئيس العصابة الذى يعلم الأولاد السرقة والنشل فى فيلم جعلونى مجرما، وشخصية الشيخ عبدالحق الطيب صاحب المبادئ فى فيلم حسن ونعيمة فى دور الشيخ الذى أخذ عنه جائزة، وتنوع فى كل أدواره بشكل كبير.
تحدثت عن شهادة أم كلثوم وإعجابها بصوت الوالد فحدثنا عن علاقة الصداقة التى جمعتهما؟
كان أبى من المقربين لكوكب الشرق، وكانت تدعوه دائما لحضور الصالونات الأدبية التى تقيمها بمنزلها، حتى أنها كانت ترفض أن يبدأ النقاش إلا بعد حضوره، وفى إحدى المرات تأخر أبى وطلب الكاتب مصطفى أمين من أم كلثوم أن تبدأ الجلسات، ولكنها رفضت حتى يحضر، وكان لها دور كبير عندما أصيب أبى بضعف شديد بالنظر وكان مهددا بـ«العمى»، فحاول السفر إلى الخارج للعلاج، ولكن اعتذر له المسؤولون لعدم وجود ميزانية، فتدخلت كوكب الشرق وأجرت اتصالات على أعلى المستويات، وخلال ساعات أنهت كل الإجراءات وسافر أبى إلى لندن لإجراء العملية.
حدثنا عن الجانب العائلى والعاطفى فى حياة شيخ الممثلين؟
حكى والدى أنه ارتبط فى بداية حياته بفتاة، ونشأت بينهما علاقة حب دامت لسبع سنوات، ولكنه عندما عرض عليها الزواج اشترطت عليه أن يترك التمثيل، فضحى بحبه ورفض أن يتنازل عن حلمه بالتمثيل، وتزوج أبى مرتين، المرة الأولى من الفنانة رفيعة الشال وأنجب منها أختنا أميرة، وانفصلا، ثم تزوج والدتى وأنجبنى «أنا وشقيقتاى إنتصار وأميمة»، وكان حريص جدا على أن نتواصل دائما، وكان أب وزوج طيب وهادئ، ترك كل أمور إدارة المنزل لوالدتى، ولكنه كان حريصا على أن يجلس معنا فى اجتماع أسبوعى نناقش فيه كل أمورنا ومشاكلنا، ولكونى ابنه الوحيد كنت قريبا منه جدا وأخذت منه صفات عديدة ولم أكن أفارقه، فكنت أساعده فى حفظ أدواره، وعندما ضعف بصره كنت أصطحبه إلى المسرح، وكنا نسكن فى عوامة بالنيل اشتراها أبى من الملك فاروق، وكانت ملتقى ثقافيا وأدبيا يجمع كل الفنانين والأدباء، وكنت أرى كل النجوم فيها، وظل يعيش فى هذه العوامة بالجزيرة حتى تقرر نقل العوامات إلى إمبابة فانتقل ليسكن بشقة فى المنيل.
وفى هذا الجو الذى نشأتم فيه ألم يكن لأى منكم ميول للعمل بالفن؟
كان والدى يرفض عملنا بالفن مطلقا إشفاقا علينا من المعاناة التى كان يعيشها الفنانون فى هذا الزمن والتى عانى منها، ولم يصر أى منا على العمل بالفن رغم أنه عرضت علينا بعض الأعمال.
حدثنا عن هذه المعاناة التى عاشها الوالد وأصعب المواقف التى مرت عليه خلال مشواره الفنى؟
كان هذا الجيل يعانى من أجل رسالته الفنية ويتحمل كل الصعاب، حتى عندما كانت الفرق المسرحية التى شارك فيها أبى تسافر للعرض خارج البلاد كانت هناك معاناة شديدة، فسافر والدى مع فرقة يوسف وهبى إلى البرازيل وأمريكا الشمالية عن طريق مراكب بالبحر، وفى إحدى هذه السفريات لم يكن معهم أموال وتأخرت التحويلات من مصر، وحكى لى والدى أنهم كانوا يعانون من الجوع فدخل هو والفنان عبدالفتاح القصرى إلى أحد الفنادق وأخذوا رغيفين من بقايا طعام الفندق ليسدوا جوعهم، وفى أثناء تصوير فيلم «ثورة اليمن» الذى قام فيه الفنان صلاح منصور بدور الإمام أحمد الذى كان يحكم اليمن تعرض فريق العمل للضرب من الشعب اليمنى، نظرا للتشابه بين صلاح منصور والإمام أحمد وظنوا أن الحاكم عاد من جديد ولم ينقذ فريق العمل سوى تدخل الشرطة باليمن.
ومتى رأيت دموع الوالد؟
رأيت دموعه عندما توفى رفيق عمره ومشواره الفنان حسين رياض والذى شاركه فى أعمال كثيرة، وكانت بينهما صداقة قوية، وفى يوم وفاة رياض كانت مسرحية سكة السلامة تعرض فى الإسكندرية، ووصل خبر وفاته قبل دخول والدى المسرح، واقترح أعضاء الفرقة عدم إخبار والدى، ولكنه عرف بالخبر قبل دخوله المسرح، وكان دوره فى المسرحية حارس قبور ينعى زوجته التى ماتت فى الحرب، وفى هذا المشهد بكى والدى بكاء حقيقيا حتى بكى معه كل الجمهور والفنانين، وعندما سألته، قال أبكى على عمك حسين صديقى وحبيبى ورفيق رحلتى، وكان اسم عمى حسين رياض آخر اسم ينطقه ويناديه أبى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
كما كان من أصعب المواقف فى حياة أبى اليوم الذى وصله خطاب مسجل بعلم الوصول من إدارة المسرح القومى عام 1965، ففوجئ بأنه خطاب المعاش، ولم يكن والدى يدرك أنه موظفا فى الدولة لعمله بالمسرح القومى، ولم يتمالك نفسه وبكى ولم تحمله قدماه فاستند إلى الحائط، وقال لى: «من إمتى ياأشرف الفنان بيتعامل زى خيل الحكومة ولما يكبر يضربوه بالنار، أنا لسه قادر على العطاء وعاوز أمثل لحد ماأموت؟، وحاولت التخفيف عنه لكنه أصيب باكتئاب بسبب قرار إحالته للمعاش، لكن بالفعل ظل يعمل حتى آخر العمر، وشارك فى مسرحيات وأفلام وكان مطلوبا حتى وفاته وأدى الكثير من الأدوار بعد إحالته للمعاش، وحتى فى أيامه الأخيرة، التى وهن فيها البصر، وكان يجد فيها صعوبة فى القراءة والحفظ، كان يصر على الوقوف على خشبة المسرح، ويؤدى دوره حتى أقعده السن وضعف البصر، قبل وفاته بقليل.
حدثنا عن أواخر أيام حياته وكيف قضى الفترة التى لم يكن فيها قادرا على العمل؟
فى أواخر حياته كان شبه فاقدا للبصر وغير قادر على الحركة، وأصيب باكتئاب بسبب عدم قدرته على العمل، وكنا نحاول التخفيف عنه، كما كان زملاؤه يقفون إلى جواره ويتواصلون معه حتى آخر يوم فى حياته ووفاته فى 17 سبتمبر 1974، ومنهم أمينة رزق ومحمود المليجى وتوفيق الدقن وفاخر فاخر وشفيق نور الدين ويوسف شاهين وعبدالمنعم إبراهيم وعبدالوارث عسر، فكان والدى بالنسبة لهم أخا ووالدا، وكانوا يسمونه شيخ الممثلين والجيل الأصغر ينادونه «بابا حسن»، حيث كانت العلاقات فى هذا الزمن يسوها الود، وكان أبى يقف إلى جوار زملائه دائما، حتى أنه إذا عرض عليه دور وكان يعلم أن أحد زملائه لا يعمل، يطلب من المخرج الاستعانة بهذا الممثل لأداء الدور، وفعلها مع يوسف شاهين الذى طلبه لأداء دور فرشح له زميل آخر حتى أن يوسف شاهين، قال له «إزاى الدور ده مكتوب لك يابابا حسن»، ولكنه كان يصر لمساعدة زملائه.
وهل نال الوالد التكريم الذى يستحقه؟
أكبر تكريم هو بقاء فنه وأدواره التى أصبحت علامات فى تاريخ الفن وعباراته التى عبرت عن الواقع بشكل كبير، ولايزال الجمهور يذكرها ويرددها، كما حصل والدى على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى من الرئيس جمال عبدالناصر عام 1959، وجائزة الدولة التشجيعية قى العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1962، وكرمته الدولة فى عيد العلم.
وهل كتب الوالد مذكراته أو أنكم تفكرون فى كتابة قصة حياته؟
كتب والدى جزءا من مذكراته، ونحن بصدد إعداد كتاب عن حياة شيخ الممثلين حسن البارودى، حيث تؤرخ قصته للعديد من الجوانب الفنية والتاريخية، كما نعمل على حفظ تراثه وتراث عمالقة الفن من خلال لجنة حفظ التراث بالأمم المتحدة، واكتشفت فى مذكرات والدى أنه هو ويوسف وهبى كانا لهما رؤية مستقبلية ويسبقان عصرهما ويفكران عام 1945 فى طرق لحفظ تراث الفنانين بعد رحيلهم، وهو نفس ما نفكر فيه حاليًا فى اللجنة، ونتمنى أن يتحقق حتى لا يضيع هذا التراث الذى يعبر بصدق عن الواقع فى كل العصور، فيستدعيه الناس ويرددونه مهما طال الزمن.