الشمعة التى احترقت لتضىء سماء الفن.. أمتع الكبار والصغار.. ولحن أول لحن فى التاريخ بدون آلات موسيقية.. وودع جمهوره فى وصية كتبها قبل موته بساعات
«إن الموت علينا حق إذا لم نمت اليوم سنموت غدًا، وأحمد الله أننى مؤمن بربي، فلا أخاف الموت الذى قد يريحنى من هذه الآلام التى أعانيها، فقد أديت واجبى نحو بلدى وكنت أتمنى أن أؤدى الكثير، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة والأعمار بيد الله، تحياتى إلى كل إنسان أحبنى ورفع يده إلى السماء من أجلى، تحياتى لكل طفل أسعدته ألحانى.. تحياتى لبلدى.. أخيرا تحياتى لأولادى وأسرتى".
كانت هذه الكلمات أخر ما كتب الراحل المبدع محمد فوزى عبقرى الغناء والتلحين الذى تحل ذكرى وفاته اليوم الموافق 20 أكتوبر، فى وصية كتبها قبل موته بساعات وبعد معاناة كبيرة مع مرض نادر اختار شخصا نادرا.
فوزى هذا الطيف الجميل الذى سبق عصره وعصورا بعده، وزار الدنيا سنوات قليلة لم تتجاوز 48 عاما هى كل عمره الذى قضى أغلبه فى إمتاع الكبار والصغار، ورحل ليظل إبداعه باقيا لأجيال عديدة وحتى تقوم الساعة.
عبقرى التلحين والغناء الذى تميز عن كل عباقرة جيله وسبقهم بسنوات، وأبدع فيما غنى ولحن من أغان وطنية وعاطفية ودينية وأغان للأطفال عبرت العصور والأجيال.
لا تصدق أن من لحن وغنى أغنية "وطنى أحببتك ياوطنى حبا لله وللأبد " هو نفسه من جعل كل الأطفال يرددون "ماما زمانها جاية، وذهب الليل"، وغنى للمحبين " تملى فى قلبى ياحبيبى، وحبيبى وعنيا، ومال القمر ماله، وتعب الهوى قلبى".
إبداعات وروائع لا تعد ولا تحصى، لفنان فوق العادة، وعبقرى استطاع أن يلحن أجمل الأغنيات والألحان احيانا بدون آلات موسيقية، ويكفى أن تسمع أغنية "كلمنى طمننى" التى لحنها فوزى دون أى آلة موسيقية وتحدى فيها نفسه لتكون أول لحن فى التاريخ ولعله اللحن الوحيد الذى استبدل أصوات الألات بأصوات البشر"
ولد العبقرى فى 15 أغسطس 1918 فى قرية كفر أبو جندى التابعة لمركز قطور بمحافظة الغربية، وهو الابن الحادى والعشرين من أصل خمسة وعشرين ولداً وبنتاً، منهم المطربة هدى سلطان، وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1931، وظهرت ميوله الفنية منذ الطفولة فتعلم أصول الموسيقى على يد محمد الخربتلى أحد أصدقاء والده، الذى كان يصحبه للغناء فى الموالد والليالى والأفراح، ثم التحق بعد حصوله على الإعدادية بمعهد فؤاد الأول للموسيقى فى القاهرة، وبعد عامين ترك الدراسة ليعمل فى ملهى الشقيقتين رتيبة وإنصاف رشدى، ثم فى صالة بديعة مصابني، حيث تعرف على فريد الأطرش، ومحمد عبد المطلب، ومحمود الشريف، واشترك معهم فى تلحين الاسكتشات والاستعراضات، وتقدم وهو فى العشرين من عمره، إلى امتحان الإذاعة كمطرب، ونجح ملحنا بينما رسب كمطرب.
تعرض فوزى لعدد من الاحباطات فى بداية حياته ليس أخرها رفضه كمطرب من الإذاعة ولكن عندما ظهر فى بداياته فى مسرحية شهرذاد بديلا عن المطرب ابراهيم حمودة، فلم يحقق نجاحا ولكنه لم ييأس، حتى سنحت له الفرصة للتمثيل فى أول أدواره.
وعن هذا الظهور قالت أميمة حامد مرسى ابنة الفنانة عقيلة راتب أن والدتها التى كانت أحد نجوم عصرها ورائدة من رواد السينما كان لها دور كبير فى اكتشاف موهبة فوزى.
وأوضحت ابنة عيقلة راتب خلال حوار معنا قائلة :" كان المؤلف مصطفى السيد يتعاون مع أمى فى بعض المونولوجات، وقال لها إن هناك فنانا جاء من طنطا واسمه محمد الحو، وهو الاسم الحقيقى لمحمد فوزى - ويريدها أن تساعده، فتعجبت أمى من اسم الحو، فغيره إلى محمد فوزى، ورشحته أمى لدور فى فيلم «سيف الجلاد» الذى كان يشاركها بطولته يوسف وهبى، وظهر فوزى فى هذا الفيلم لأول مرة ولم يغنى فيه».
وتابعت ابنة عقيلة راتب : «عندما عرفت أمى بمواهبه فى التلحين والغناء رشحته أمامها لبطولة فيلم «عروس البحر، وغنى معها فوزى أول دويتو فى حياته فى أغنية «صيد العصارى»، وقام بتلحين أغانى الفيلم».
وخلال ثلاث سنواتاستطاع فوزى التربع على عرش السينما الغنائية والاستعراضية، وقام ببطولة عشرات الأفلام، وأسس شركة للانتاج السينمائى، وأذيعت أغانيه فى الإذاعة التى رفضت إجازته من قبل، وفرض نجاحه عليها بأغانيه المتنوعة التى حققت جماهيرية واسعة ،ومنها الوطنى مثل «بلدى أحببتك يا بلدي»، والدينى مثل: «يا تواب يا غفور»، و«إلهى ما أعدلك»، وأغانى الأطفال مثل «ماما زمانها جاية» و«ذهب الليل»، وأغانى المناسبات ومنها "هاتوا الفوانيس يا ولاد" و"إنتى يا أمي"، كما أبدع فى أغانى الفرانكوآراب ومنها لحن "يا مصطفى" والذى أصبح أيقونة فى الموسيقى العالمية وتم استخدامه فى أغانى كثيرة بكل أنحاء العالم، لحن عشرات الألحان التى حققت نجاحا واسعا لزملائه من عمالقة الطرب، ومنها ساكن فى حى السيدة لعبدالمطلب.
كان لفوزى العديد من الأدوار الوطنية والاجتماعية حيث شارك فى قطار الرحمة، وقدم مساعدات للمستشفيات والمجهود الحربى وغيرها من الأدوار الإنسانية والإجتماعية والوطنية.
وكان من أكبر الأدوار الوطنية التى قام بها عبقرى التلحين والغناء تأسيس شركة مصرفون لإنتاج الإسطوانات، وهى أول شركة اسطوانات مصرية، وكان تأسيسها ضربة قاصمة لشركات الإسطوانات الأجنبية التى كانت تبيع الإسطوانة بتسعين قرشاً، بينما كانت شركة فوزى تبيعها بخمسة وثلاثين قرشاً، وأنتجت شركته أغانى كبار المطربين فى ذلك العصر مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهما.
ولحن فوزى النشيد الوطنى للجزائر، الذى نظمه شاعر الثورة الجزائرية مفدى زكريا، لذلك أمر الرئيس الجزائرى عبدالعزيز بوتفليقة بإطلاق اسمه على المعهد الوطنى العالى للموسيقى بالجزائر، فضلا عن منحه «وسام الاستحقاق الوطنى» بعد وفاته.
تزوج فوزى خلال حياته عام 1943 زوجته الأولى السيدة هداية وأنجب منها (المهندس نبيل 1944 ـ المهندس سمير 1946 ـ الدكتور منير 1948)، وانفصل عنها عام 1952، ثم تزوج عام 1952 ب من الفنانة مديحة يسرى، وشاركها بطولة عدد من الأفلام، وأنجب منها عمرو عام 1955، وانفصل عنها عام 1959، ثم تزوج عام 1960 من زوجته الثالثة كريمة وأنجب منها ابنته الصغرى إيمان عام 1961 ظلت معه حتى وفاته.
كانت الضربة القاصمة لفوزى والتى ربما كتبت نهاية حياته، عندما تم تأميم شركة مصرفون عام 1961، وتعيينه مديراً لها بمرتب 100جنيه الأمر الذى أصابه باكتئاب حاد كان مقدمة رحلة مرضه الطويلة، حيث أصيب بمرض سرطان العظام الذى لم يكن معروفا وقتها وسمى باسمه " مرض فوزى "، وعانى معاناة شديدة مع المرض حتى نقص وزنه بشدة من 90 كيلو إلى 37 كيلو.
وقبل وفاته بساعات كتب فوزى كلمات يودع فيها جمهوره ومحبيه، وطلب دفنه صباح اليوم التالى الذى كان موافقا يوم جمعة وقال فى كلماته الأخيرة: "منذ أكثر من سنة تقريبًا وأنا أشكو من ألم حاد فى جسمى لا أعرف سببه، بعض الأطباء يقولون إنه روماتيزم والبعض يقول إنه نتيجة عملية الحالب التى أجريت لي، كل هذا يحدث والألم يزداد شيئا فشيئا، وبدأ النوم يطير من عينى واحتار الأطباء فى تشخيص هذا المرض، كل هذا وأنا أحاول إخفاء آلامى عن الأصدقاء إلى أن استبد بى المرض ولم أستطع القيام من الفراش وبدأ وزنى ينقص، وفقدت فعلا حوالى 12 كيلو جرامًا، وانسدت نفسى عن الأكل حتى الحقن المسكنة التى كنت أُحْقَن بها لتخفيف الألم بدأ جسمى يأخذ عليها وأصبحت لا تؤثر فيّ، وبدأ الأهل والأصدقاء يشعرونى بآلامى وضعفى وأنا حاسس أنى أذوب كالشمعة"، وبالفعل توفى فوزى بعد ساعات من كتابة هذه الرسالة فى 20 أكتوبر 1966، عن عمر ناهز 48 عامًا.
رحم الله المبدع الذى أمتعنا وكان كشمعة ذابت لتضىء سماء الفن.