قدم أدوار الشر بطريقته الخاصة، وعرفناه شريرا ظريفا، استطاع أن يحظى بحب الملايين، وأن يجعل كل الأجيال تحفظ وتردد عباراته وإيفيهاته: "أحلى من الشرف مفيش، صلاة النبى أحسن، ألو يا همبكة، انتباه يا دانس، الباز أفندى ساقط توجيهية وسمسار مراكب وقبانى".
إنه العملاق توفيق الدقن صاحب مدرسة الشر الظريف والإفيهات التى بقيت وستبقى على مر الأجيال، والذى رحل عن دنيانا فى مثل هذا اليوم الموافق 26 نوفمبر عام 1988 ، بعد حياة ثرية امتزجت فيها التراجيديا بالكوميديا، والمأساة مع خفة الظل، والمعاناة مع التحدى والنجاح، والنكران مع الوفاء، وعشق الفن مع الرغبة فى الاعتزال فى نهاية العمر.
وفى ذكرى رحيل توفيق الدقن نستعرض الكثير من المعلومات التى قد لا يعرفها الكثيرون عن أظرف شرير فى السينما على لسان ابنه المستشار ماضى توفيق الدقن.
وعن بدايات ونشأة توفيق الدقن قال ابنه فى حوار لـ"عين": والدى ينتمى إلى أسرة ريفية من بركة السبع بالمنوفية، وكان والده أزهريا وعمل بالنيابات، وتزوج أكثر من مرة، وكانت جدتى ضمن هذه الزيجات، وبعد معاناة أنجب طفلًا سماه "توفيق"، وهو شقيق والدى الأكبر.
وتابع :" توفى هذا الطفل فى عمر 3 سنوات، وبعده أنجبت جدتى طفلا آخر هو والدى، فأصر جدى أن يسميه "توفيق"، ولم يستخرج له شهادة ميلاد، فعاش والدى حياته بشهادة ميلاد شقيقه المتوفى".
يضحك الابن قائلا: "كان والدى يسخر دائما من هذا الموقف يقول دائمًا: "أنا عايش حياتى بدل فاقد، وفى 3 سنين من عمرى ماعشتهمش".
يؤكد الابن ان والده تميز منذ صغره بالصوت الجميل، ومخارج الألفاظ الواضحة، وسرعة البديهة، فألحقه والده بالكتّاب، وحفظ القرآن كاملًا فى سن صغيرة، وسموه فى قريته "الشيخ العجوز"، وكان والده يتباهى به ويجلسه مع أصدقائه ليستمعوا إلى تلاوته.
يشير ماضى الدقن إلى أن جده انتقل بأسرته إلى محافظة المنيا بعدما اختلف مع إخوته على الميراث ، واستقر بأسرته هناك، ليقضى توفيق الدقن فترة شبابه الأولى وتظهر مواهبه فى المنيا.
وأكد ماضى الدقن أن والده كان متعدد المواهب، فكان رئيس فريق التمثيل بالمدرسة الثانوية وجمعية الشبان المسلمين، ومتفوقا فى رياضة البوكس وكرة القدم ، وكان يلعب فى فريق نادى المنيا ومنتخب قبلى، كما كان يتميز بخطه الجميل، ويكتب بيديه اليمنى واليسرى، وهذه الموهبة ساعدته عندما تعثرت ظروف الأسرة، حيث أخذه والده معه فى الصيف ليعمل كاتبًا ينسخ المحاضر بالنيابة، ليساعد نفسه وأسرته.
وكشف الابن عن أن والده رفض الاحتراف فى نادى الزمالك قائلا: "كانت جمعية الشبان المسلمين ونادى المنيا يقيمان حفلة كبيرة كل عام، ويستضيفان فرقة فنية كبيرة لعرض رواية مسرحية، وقبل العرض تقام مباراة بين فريق المنيا وفرقة كبيرة كالأهلى أو الزمالك، وجاء الزمالك ليلعب مع المنيا، فأحرز والدى هدفًا، وأراد الزمالك ضمه إلى صفوفه وكان وقتها اسمه نادى فاروق، ولكن والدى رفض لسبب غريب"..
وأوضح ماضى الدقن أن والده كان يتميز بشعره الجميل، فرفض العرض، وقال: «اللى بياخدوه بيدخلوه الجيش 6 شهور ويحلق شعره».
وأضاف الابن :"حدثنى الكابتن أبورجيلة عن مهارات أبى فى المباريات التى لعبها معه، واستفاد والدى بمهاراته الرياضية فى التمثيل، ولولا اعتزازه بشعره لأصبح لاعب كرة قدم كبيرًا".
وعن بداية مشوار توفيق الدقن الفنى قال ابنه: "تقدم والدى لاختبارات معهد التمثيل فى أول دفعة بعد افتتاحه ، كانت لجنة الاختبار مكونة من نجيب الريحانى، وحسين رياض، وزكى طليمات، فسخر الريحانى من اسمه، وقال له «إيه الدقن دى»، فرد والدى عليه «وإيه الريحانى دى»، فظنت اللجنة أنه متعال وغير جاد، ورسب فى الاختبار".
وتابع: "بعدها سأل عليه زكى طليمات، وقال له «تعالى وهات الصور»، والتحق أبى بالدفعة الثانية فى المعهد، وشارك فى أول عمل فنى له وهو مسرحية "الناس اللى تحت" بالمسرح الحر مع عبدالمنعم مدبولى، وبعدها شارك فى فيلم «ظهور الإسلام» مع كوكبة من النجوم، ثم فيلم «درب المهابيل»، ثم توالت أدواره.
يتحدث الابن عن أشهر إفيهات والده قائلا: "فى بعض الأدوار لم يجد والدى شيئًا مميزًا، فحاول أن يضع بصمته حتى تتضح الرسالة منها، وكثيرًا ما كان يبتدع الإفيه، وأحيانًا يجد كلمة فى السيناريو تعجبه فيستأذن المخرج والمؤلف لتطويرها وتكرارها".
وتابع: "كان المخرجون والمؤلفون يعرفون عبقرية والدى وقدرته على الابتكار، ويثقون فيه، فكانت مثلًا عبارة «أحلى من الشرف مفيش» جملته التى أضافها للنص، وبعده استخدمها نجوم كبار، ومنهم استيفان روستى، وفى مسرحية «سكة السلامة» كانت عبارة «على ودنه» موجودة فى السيناريو، وهو الذى جعل منها «إفيه» كرره فى المسرحية".
وأضاف الابن :" فى فيلم "الشيطان يعظ"، كان من المفترض أن يقول والدى عبارة «الدنيا جرا فيها إيه.. الناس كلها بقت فتوات؟»، فجلس متململًا قبل التصوير، وعندما أدى المشهد أضاف للجملة وقال «الناس كلها بقت فتوات.. أمال مين اللى هيضرب»، فأصبحت من أشهر الإفيهات، وأعطت طعمًا للمشهد وللفيلم كله، وختم بها المخرج أشرف فهمى الفيلم".
وعن عدم حصول والده على أدوار البطولة المطلقة قال الابن: "كان أبى يقبل الأدوار التى تضيف لرصيده، حتى وإن ظهر فيها لدقائق، مثلما حدث فى فيلم «الشيماء»، الذى أدى فيه دور «دريد بن الصمة»، وحصل فيه على جائزة، فكان يعرف أنه سيضيف للدور الصغير فيخرج المشاهد ولا يتذكر غيره، ويقول دائمًا «ليس هناك دور كبير ودور صغير، ولكن هناك ممثل كبير وممثل صغير».
وأشار ماضى الدقن إلى أن والده أثبت أن ضيف الشرف ليس كمالة عدد، وكان يقدم رسالة من خلال أدوار الشر، مؤكدا أنه كان يهرب من الأدوار التى بها مشاهد اغتصاب وعنف وإسفاف، ويقول دائمًا: «تركت لك أشياء لن تخجل منها طوال حياتك»، ولم تكن تشغله فكرة البطولة المطلقة، وهكذا كان كبار النجوم، مثل محمود المليجى، وحسين رياض، وزكى رستم.
ويؤكد أن والده كان كأى فنان يخاف من الزمن، ويقول «الفنان عندما يكبر يصبح مثل خيل الحكومة، يتركونه ويأتون باللى بعده»، مشيرا إلى أن الفنان توفيق الدقن عانى فى أواخر حياته من التعامل مع المخرجين الجدد، ومن التجاهل وعدم الاحترام فى كتابة الاسم، مشيرا إلى أنه شعر بإنكار الجميل وعدم التقدير، وزاد حزنه بعد رحيل عدد من أصدقائه، فبدأ يشعر بالغربة، وأن المناخ «مش بتاعه»، وكان يقول «عاوز أعتزل»، وبالفعل فكر فى الاعتزال قبل وفاته، وقال ماضى الدقن: "لو كان القدر أمهل والدى كان سيعتزل".
وعن مرض الشرير الظريف توفيق الدقن ووفاته قال ماضى الدقن: "كان والدى مريضًا بالسكر، وأصيب بالفشل الكلوى سنة 86، وظل يغسل كلى لمدة عامين، ورغم ذلك ظل يعمل، وسافر إلى عجمان ليشارك فى رواية «الوريث» مع المخرج خليل شوقى، وقال له «أنا عندى فشل كلوى، وباغسل مرتين فى الأسبوع، ومش عاوز حد يعرف»، مؤكدا أن والده كان لا يحب إحساس الشفقة، ولم يكن يعترف بالمرض.
وأضاف: "بعد هذه الرواية ظل أبى لفترة لا يعمل، حتى عرضت عليه إحدى الشركات مسلسلًا وصور بعض المشاهد، لكنه أصيب بذبحة».
وتابع: "قبل وفاته طلب منى أن أصطحبه إلى منزل العائلة فى شبرا لرؤية إخوته، وأثناء عودتنا قال لى «يظهر يابنى إنى هاموت أو حد منهم هيموت»، ثم ضحك ساخرًا: «ياللا فى ستين داهية».
وأشار ماضى الدقن إلى أن والده كتب جزءا من مذكراته وسماها "أوراق من ذاكرتى"، مؤكدا أنه كان يتمنى أن يعدها الراحل محفوظ عبدالرحمن، لتكون مثل مسلسل «أم كلثوم» و«طه حسين»، ولكن هذا لم يحدث، مشيرا إلى آخر وصايا والده الراحل حيث قال لأبنائه: «لما أموت ادفنونى وحطوا على قبرى وردة حمراء، وكل واحد يروح يشوف شغله، فالدنيا لا تقف على شخص».