لكل منا عالمه الخاص به سواء ذهنيا أو نفسيا أو اجتماعيا، ومعظمنا ينحصر تفكيره على الجانب الاجتماعى من حياته وعلاقته بالآخرين على كل المستويات، ولكن كم منّا يبذل مجهودا ولو صغيرا فى التركيز مع عقله بما يحمله من أفكار وتناقضات تصل للشتات احيانا، ومن منّا يتعمق داخل نفسه ويبحث بها كأنها البحث الأهم فى حياته، نخاف؟، نعم نحن شعوب تخاف من مواجهة النفس، أصعب المواجهات ولذلك عندما يصادفنا كتاب فى علم النفس أو عمل فنى يتعمق فى تلك الجزئية ننقسم بين متجاهل وشغوف لقراءة الكتاب أو مشاهدة العمل الفنى وما أقلهم ، فنحن فى هذا المقال أمام عمل فنى سيكو دراما أى دراما سينمائية تدرس السلوك النفسى للإنسان لمحاولة إيجاد حلول جديدة ولتسليط الضوء على بعض الحالات والأمراض النفسية التى نتجاهل وجودها سواء بنا أو بمن حولنا ونقّر أنها مسّ جنّى يُعالج بالقرآن أو الرقية حتى تستمر الحياة ويستمر الإحساس بالاستقرار حتى وإن كان مزيفا، فهل سينجح هذا العمل الفنى فى جذب المتلقين أم يزيدهم فوق النفور نفورا؟
فيلم "جريمة الإيموبيليا" تأليف وإخراج خالد الحجر الذى بذل مجهودا كبيرا ككاتب للعمل فى إبراز أعراض مرض الفصام البارانوى الذى يعانى منه بطل العمل الكاتب الشهير "كمال حلمى" ويؤدى دوره هانى عادل، شخصية انعزالية يخاف من الناس ولا يحتك بهم إلا نادرا، يعانى اضطرابا فى التفكير والشخصية والإدراك إلى جانب هلاوس سمعية عبارة عن صوت يضطهده دائما ويعلق على تصرفاته بالسلب ويشككه فى كل من حوله أنهم يريدون إيذائه وبالتالى يدافع عن نفسه باستخدام العنف وارتكاب الجرائم مع تدهور حالته النفسية، كل هذه التفاصيل مكتوبة بدقة وحرفية شديدة وبشكل علمى يوضح طبيعة مرض الفصام البارانوى ولكن أخفق الكاتب والمخرج خالد الحجر وأيضا مؤدى الدور هانى عادل فى تجسيد البعد الجسمانى للشخصية فقد ظهر البطل يعانى من رعشة بيديه وتشنجات بأطرافه مع حركة غريبة بعينيه لا تمت للمرض النفسى بصلة مما أدى إلى الافتعال بالأداء التمثيلى والبُعد عن سلاسة الأداء وكسر حالة الامتزاج العاطفى ومعايشة المتلقى للعمل الفنى وللحالة الإنسانية المؤداه على الشاشة أو التعاطف معها فقد تحول فيلم السيكودراما فى بعض مشاهده إلى كوميديا وضحك ملأ قاعة العرض، كما لم يهتم الكاتب برسم البعد النفسى لباقى شخصيات العمل ولكن ذلك يناسب أفلام السيكودراما التى تعتمد على البطل المصاب بمرض نفسى بشكل أساسى.
اعتمد فيلم "جريمة الإيموبيليا" على نوعين من الصراع، صراع نفسى بين البطل ونفسه وهلاوسه، وهو الصراع الأساسى صراع متصاعد تزيد حدته مع الأحداث، وصراع آخر يُعتبر ثانويا بين البطل وآخر يريد الانتقام منه، فبالرغم من حدة الصراع النفسى إلا أنه افتقر للتواصل الحقيقى مع المتلقين فهو صراع لا يهم العامة والأغلبية ولا يمس حياتهم بل يمس حياة البعض، وما أضعف ذلك التواصل أيضا عدم مشاركة المتلقى فى حل لغز الأحداث والإجابة على التساؤلات التى يطرحها العمل الفنى بالرغم من إعتماده على حبكة الكشف –تقوم على شئون تتكشف وأشخاص يظهرون على حقيقتهم- وذلك ببساطة لأنك كمتلقى أدركت سبب ما يحدث وما وراء الأحداث منذ البداية، ونتيجة لذلك أصيب العمل الفنى بعلة الرتابة والملل خاصة مع وحدة مكان الأحداث والتى تتطلب مجهود كبير من المخرج ومدير التصوير لكسر الملل، كما أن الحركة فى "جريمة الإيموبيليا" حركة داخلية – داخل نفس وعقل البطل المريض –أكثر منها خارجية لكن لم يستغل المخرج تلك الحركة الداخلية والصراع النفسى لإضفاء الإثارة والتشويق، فكان من الممكن أن يستغل فكرة ان البطل كاتب مشهور ومن المعروف أن الكتاب يتمتعون بخيال واسع، فقد كنت أنتظر أن يتخيل البطل أكثر من سيناريو لما يحدث فى صورة بصرية سواء من خلال أحلامه أو واقعه، مما ينتج عنه حيرة المتلقى ومشاركته للبطل فى حل اللغز بدلا من إعطائه الحل على طبق من ذهب منذ بداية العمل الفنى.
كما أن أفلام السيكو دراما تحتاج لكادرات وزوايا تصوير متنوعة وغير تقليدية حتى تعكس ما يعانيه البطل المريض من هلاوس واضطرابات، فلم أشاهد ذلك إلا فى زاوية واحدة منخفضة –للتعظيم والتهويل – استخدمها مدير التصوير توضح شدة غضب البطل وتدهور حالته النفسية وسيطرة الهلاوس عليه بعد مقتل صديقه،إلا أن من عوامل القوة فى ذلك العمل الفنى المؤثرات الصوتية التى اعتمد عليها العمل وهى عبارة عن صوت همس متكرر ومتصاعد مع تصاعد الأحداث وحدة الصراع النفسى ،لكن هناك سقطة ساذجة وقع فيها مخرج العمل وهى تكرار مشهد من فيلم "تراب الماس" بنفس تفاصيله من تقطيع جثة ووضعها فى أكياس بحقيبة سفر وذلك ما يسمى بالاستسهال وفقر إبداعى، إلى جانب مشهد تناثر الدماء على وجه المريض النفسى بسبب تقطيعه لجثة، مشهد يحوى عنفا شديدا وتشمئز منه النفس فهو يزيد حالة نفور المتلقى من العمل لا التواصل والاندماج معه خاصة وأن حذف تلك اللقطات من المشهد لن يخلّ بسياق العمل أو ينتقص منه.