"أنا قبطى مسيحى ومن المنيا.. وأنا هنا عشان أثبت إننا مكملين.. وإن الموسيقى هى الحل".. لحظات من الصمت الطويل اجتاحت مسرح شباب العالم أعقبها زلزال هز المكان من دوى صيحات الحاضرين وتصفيقهم، إبان انطلاق هذه الكلمات على لسان المؤلف الموسيقى باسم درويش، الذى قرر قطع "حالة السرحان" فى وصلة فرقته كايرو ستيبس الموسيقية خلال حفلها الكبير فى افتتاح منتدى شباب العالم، ويخرج عن صمته، ويقرر ارتجال "كلمة" صدمت آلاف الحاضرين من الشباب من مختلف دول العالم، صدمة إعجاب واحترام لما عبّر عنه، رغم وجعه الدفين لما حدث فى موطنه الأم "اغتصاب للأمن والحرية" نتيجة الإرهاب، ليحوّل كل مشاعره الحزينة إلى رغبة فى التحدى، ومحاربة ذلك الإرهاب الفكرى بما يجيده.. الموسيقى.
4 نوفمبر، فى تمام الثامنة مساء، كان موعد انطلاق دعوة مؤسس الفرقة الألمانية ذات الأصول المصرية كايرو ستيبس لإحياء أول حفل موسيقى جماهيرى فى المنيا، في قلب الصعيد، ردًّا على الأحداث الإرهابية التى حدثت هناك مؤخرًا، ومحاولة لمواجهة ما يوصف بـ"الإرهاب الفكري" بالموسيقى، وإخماد نيران الفتنة الطائفية قبل اندلاعها بوصلة سماعية آسرة من روح موسيقى الجاز العالمية الممتزجة بلمسات الصوفية والطرب الأصيل، دعوة ألقاها باسم بشكل مفاجئ أمام شباب العالم فى حضور الرئيس عبد الفتاح السيسى، ووزيرة الثقافة إيناس عبد الدايم، أكد فيها أن المصريين يظهرون وقت الشدة، وصلابتهم تزداد وقت المحن، ولن يهز كيانهم أى محاولات لنثر الفتن، قائلًا: كان موقفا صعبا جدا أنى أعزف النهاردة، بس أصريت أعمل الحفل عشان ندِّى علامة إن إحنا مستمرين وإن إحنا كمصريين بنبان فى المواقف الصعبة"، موجهًا رسالته لأهله فى المنيا "أرجوكم ماتسمحوش لحد يخش وسطيكو"، خاتمًا كلمته الارتجالية بمسك الختام "الموسيقى هي الحل، بالموسيقى بنبى جسور، والحفلة الجاية لينا هتكون فى المنيا".
وفى أسرع رد فعل رسمى على الدعوة، خرجت الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، على الملأ، معلنة تبنيها لدعوة درويش لإقامة أول حفل موسيقى من نوعه فى المنيا، ومن وقتها جرى العمل على قدم وساق لتنظيم هذا الحدث الفريد، حتى تم الاستقرار رسميًّا على المكان والموعد، ليتم احتضانه مساء الأربعاء المقبل فى قلب جامعة المنيا، وسط شبابها من الطلبة والطالبات، ووسط أهل باسم درويش، وبحضور وزيرة الثقافة، والمطرب على الهلباوى، ويفتح بابها للجميع بشكل مجانى، ليرمى درويش السيوف ويتكل فى حربه على العود، ويبدأ من هناك حلم طارده منذ سنوات طوال، فى أولى خطوات إنشاء مركز ثقافى فى موطنه لتعليم الموسيقى، فهو يؤمن بأن الأمة التى تربى أجيالها أطفالها على حب الموسيقى وعزف الآلات من المستحيل أن تثيرها فتن فكرية، وأن أول حل لوأد أي أفكار هدامة تكمن فى الموسيقى.
"حلم من أحلامى بيتحقق، ويكفينى إنى هعزف وسط أهلى".. هكذا يختزل درويش حماسه الكبير لهذه التجربة التى يمكن وصفها بالمغامرة، ويعود بها إلى موطنه بعد غربة سنوات طوال قاربت العقدين من الزمن عاش فيها مستقرًا فى ألمانيا، حيث زرع بذرة مشروعه الموسيقى الحالم "كايرو ستيبس"، وقرر اختيار له اسم يعبر مباشرة عن "مصر"، حيث استوحى منها موسيقاه، ومزجها من شربه من نهل الموسيقى الغربية وعشقه لموسيقى الجاز، لينتج فى الأخير توليفة سماعية غير مألوفة يحب أن يصفها دومًا بتعبير "مزيكا مصرى بتقفيل ألمانى"، وصال وجال بها فى أنحاء العالم واقتحم بها دهاليز القارة العجوز، حتى تربع مؤخرًا على عرش الجاز الألمانى والعالمى بتتويجه بجائزة "الجاز الألمانية" أعرق جوائز تلك الموسيقى على مستوى العالم، عبر ألبومه الموسيقى الأخير "فلاينج كاربت" بمشاركة رباعى التانجو العالمى كوادرو نويفو، وتم تكريمه على مسرح الفيلهارمونى التاريخى، وتمكن من حمل لقب أول عازف عود مصرى وعربي ينال هذه الجائزة، ليصل بها لقمة جبل أحلامه، واقترب رسميًّا من ملامسة سقف الأحلام بمداعبته لسحاب حلم آخر طارده طويلًا.. عزف موسيقاه فى مسقط رأسه، وهاهو ذا يحققه.