«أكتب هذه الكلمات والسنة الجديدة فى طريقها إلى الدنيا أستعد لها بسنوات عمرى المتبقية، أقول لها ادخلى وخذى من حياتى ما شئت، فقد اعتدت أن أحتفل مطلع كل عام بالسنة الجديدة وأيضا بميلادى الموافق 3 يناير، أكتب من غرفتى بمستشفى المعادى، حيث أخضع للعلاج، لكننى مع قسوة الألم أمارس حياتى كما أريد وأحب وأبغى، ألتقى الناس ولا أهرب منهم لتقدمى فى العمر فلست ممن يخافون من الزمن ولا من أفعاله، أعترف أننى لست فى الشكل والصورة التى اعتاد الجمهور رؤيتها، لكن تقدم العمر أضاف لى خبرات وتجارب كثيرة أولها عمق التعامل والحكمة والرؤية المستقبلية، والآن أنا امرأة جميلة الفكر أمتلك حرية الروح والإرادة والاختيار».
لخصت هذه الكلمات التى كتبتها الفنانة نادية لطفى مطلع العام الماضى نظرتها للحياة والمرض والعمر والجمال، فهكذا هى جميلة الجميلات المتمردة على كل أسباب الضعف، القوية أمام كل الآلام، المقاومة لكل أنواع القبح، العاشقة للفن والحياة والجمال.
يصادف أن تستقبل الجميلة المتمردة عيد ميلادها وبداية العام الجديد فى نفس المستشفى وبنفس المشاعر.
تحمل نادية لطفى صفات القديسة لويزا الطاهرة فى فيلمها الرائع الناصر صلاح الدين التى لا يعرف قلبها سوى الحب والسلام، فتداوى الجرحى وتخفف الآلام، ورقة وبراءة «سهير» فى فيلم الخطايا، وبنفس القدرة على الإبداع والإبهار تتحول لتصبح «زنوبة» فتاة الليل اللعوب التى تستطيع الاستحواذ على قلب وعقل «سى السيد وابنه ياسين فى رائعة نجيب محفوظ «قصر الشوق»، تشعر وكأنها تستطيع تطويع شيطان الفن وملاكه، فتتحول ملامحها وشخصيتها بين كل دور ونقيضه، فمن ينظر إلى وجه «لويزا» لا يصدق أنه نفس وجه «زنوبة» فى قصر الشوق، ومن يرى «مادى» فى النظارة السوداء، و«ريرى» فى السمان والخريف» يتعجب حين يرى ملامح «زينة» فى فيلم المومياء.
نادية لطفى ليست مجرد فنانة ذات رصيد ضخم من الإبداع والوهج الفنى جعلها القاسم المشترك وكلمة السر فى نجاح عدد من أعظم أفلام السينما المصرية، حيث تستحوذ على عدد كبير من بين أعظم 100 فيلم فى السينما ومنها «المومياء، الناصر صلاح الدين، الخطايا، أبى فوق الشجرة، المستحيل، السمان والخريف.. وغيرها»، ولكنها حالة إنسانية ونموذج حياة ونضال ووطنية وبطولة يتجاوز بكثير كونها فنانة مبدعة، وهو ما جعلها تتربع على عرش القلوب رغم ابتعادها عن التمثيل منذ قدمت أخر أعمالها الفنية عام 1993 «مسلسل ناس ولاد ناس» بالتليفزيون، وفيلم الأب الشرعى فى السينما عام 1988.
أجرينا حوارا مع جميلة الجميلات نادية لطفى التى لا يملك من يسمع صوتها وابتسامتها رغم آلامها واستقبالها العام الجديد ويوم ميلادها فى المستشفى إلا أن يستمد منها فيضا من التفاؤل والقوة ومدادا من الأمل وحب الحياة.
تتحدث النجمة عن قدرتها على تطويع ملامحها وأدائها فى أدوارها المختلفة بين القديسة والفتاة اللعوب أوالمستهترة، قائلة: «الممثل المتمكن يستطيع تطويع أدواته، وبذلك يمكنه تقديم شخصيات مختلفة، وهذا ما فعلته فى أفلامى المختلفة، الناصر صلاح الدين، النظارة السوداء، الخطايا، السادة الرجال، المومياء، السمان والخريف، وغيرها، وأرى أن أقرب فنان لنفس منهجى وأدائى التمثيلى هو الراحل أحمد زكى».
ولدت نادية لطفى فى حى عابدين واسمها الحقيقى بولا محمد مصطفى شفيق، وحصلت على دبلوم المدرسة الألمانية عام 1955، والدها محاسب وكان محبا للفن والسينما، واكتشفها المخرج رمسيس نجيب، واختار لها اسم «نادية لطفى»، اقتباسا من شخصية فاتن حمامة نادية فى فيلم لا أنام للكاتب إحسان عبدالقدوس، وقدمت أول أعمالها فى السينما عام 1958 من خلال فيلم « سلطان».
تفسر النجمة قلة أعمالها التليفزيونية والمسرحية والتى اقتصرت على مسلسل واحد بعنوان «ناس ولاد ناس» عام 1993، ومسرحية بمبة كشر فى بداية السبعينات، قائلة: أنا مش بنت التليفزيون، وقدمت هذه التجربة كنوع من التنوع وهذا ينطبق أيضا على تجربتى الوحيدة فى المسرح، فأنا أعشق السينما، واستفدت علما وخبرة من تجاربى فى المسرح والتليفزيون أضافت لى فى السينما».
تحدثنا معها وفى ذهننا سؤال حائر فكيف لعاشقة السينما أن تبتعد عنها طوال هذه المدة رغم قدرتها على العطاء، فجاءت إجابتها ضاحكة وقالت: «أنا من الممثلين اللى خلصت المنهج بسرعة، وماكنش عندى استعداد لإعادة سنوات ونماذج سابقة قدمتها، وكان لى خط فى نهضة صناعة السينما والدراما، وقدمت تجارب جديدة فى الصناعة والدراما ومنها فيلم المستحيل للدكتور مصطفى محمود، وفيلم المومياء، الحاجز، والناصر صلاح الدين».
وأوضحت: «عندما بدأ الخط البيانى للسينما فى التدنى وحدث تراجع فى الدراما، قررت أصون كرامتى وفنى، فكان يجب أن أتوقف، لأن احترامى لفنى يفوق حبى وعشقى للعمل فى السينما».
وأضافت: «كان هناك نوع من التوهان، والعقد اللولى انفرط، ولم يعد هناك شكل للسينما فقررت الابتعاد»، وهكذا هى دائما كما تقول عن نفسها: «لا أحب أنصاف الحلول».
تحمل نادية لطفى كثيرا من صفات الجندى المحارب، الذى لا يعرف الاستسلام، ربما منحها تاريخها الوطنى ووقوفها إلى جوار الجنود على الجبهة فى حرب الاستنزاف وخلال حرب أكتوبر المزيد من القوة والقدرة على المقاومة والنظر إلى الفن، على أنه نوع من الجهاد والكفاح فى مواجهة التردى والقبح.
فالجميلة الرقيقة اكتسبت كثيرا من صفات الجنود حين كانت تنظم زيارات خلال حرب الاستنزاف جمعت فيها الفنانين والأدباء ومنهم فطين عبدالوهاب وفؤاد المهندس وجورج سيدهم، ونجيب محفوظ ويوسف السباعى ويوسف إدريس، وتعلمت كيف تروض الألم حين جمعت شهادات الأبطال المصابين فى حرب أكتوبر خلال فيلم «جيوش الشمس» مع المخرج شادى عبدالسلام، واعتادت أن تهزم هزيمة الخوف عندما اخترقت الحصار الإسرائيلى لبيروت عام 1982، وقالت وقتها: «مستعدة «أدخل فى حيطان ونار مش بس حصار».
وقال عنها الشاعر الفلسطينى عز الدين المناصرة: كانت نادية لطفى امرأة شجاعة عندما زارتنا خلال حصار بيروت عام 1982، وبقيت طيلة الحصار حتى خرجت معنا فى سفينة شمس المتوسط اليونانية إلى ميناء طرطوس السورى.
تلخص نادية لطفى نظرتها للسينما والفن قائلة: «الفن لا يقل تأثيرا وفعالية عن الجيش، فكما يوجد قوات مسلحة حربية، يعتبر الفن قوات مسلحة إنسانية واجتماعية، ولكنه مر بفترة انتكاسة».
لا تخلو نظرتها من التفاؤل فتقول: «اليومين دول بدأ الخط البيانى للدراما يعلى شوية فى الحوار والشكل والمضمون، وخفتت نبرة التحريض على العنف، وأرجو أن يستمر ويكتمل هذا الاتجاه»، لخصت كل معانى الوطنية والحب والرضا فقالت: «الحياة هى انعكاس حقيقى لحب الوطن وتقديس ترابه، وإن قُدّر لى أن أعيش الحياة مرة أخرى سأحياها كما حييتها، فأنا عشتها وقبلتها واستمتعت بها ومارستها، ومازلت أمارسها كما أحب وكما أريد، فالحياة لحظة مشعة صادقة، والحب أكسجين الحياة وبدونه نختنق، والصبر أكثر الأشياء التى تعلمتها من الدنيا».
تجمع بين قوة المحارب ورقة الصوفى المتعبدفى محراب الفن وتقول: «الفن الراقى يصل إلى الصوفية، فالفن هو الشمول والحياة، التاريخ والجغرافيا والعطاء والتجارب، ونهر الفن تصب فيه كل العناصر الاإنسانية».
استطاعت بقوتها أن تروض الألم، فالنجمة التى تقضى فى المستشفى مؤخرا فترات أكثر من الأوقات التى تقضيها فى بيتها وسبق أن تعرضت توقف قلبها، وأسفرت محاولات إسعافها بإنعاش القلب عن كسور فى الضلوع والقفص الصدرى تتحدث عن الألم والمرض قائلة: الألم فى حد ذاته يكسب الإنسان أشياء كثيرة أهمها الصبر، والوجع يضيف للإنسان سموا وروحانية.
وتؤكد أنها لا تعانى من الوحدة فالجميلة المثقفة وقتها مشغول دائما بالأحباب والقراءة، وتستطيع كما قالت عن نفسها أن تشعر بالألفة والحب حتى مع الجماد.
لا تعرف الخوف حتى من الموت وتقول: «الآن أسجل انطباعاتى عن الأيام، وقلبى لا يعرف الخوف، فلم أضبط نفسى متلبسة بالخوف أبدا، حتى الخوف من المرض أو الموت، وأدرك تمامًا أن الموت حق علينا، فلماذا أرهق نفسى بالموت وأنا حية أرزق وأضحك وأحب».
لم يكن ابتعاد نادية لطفى عن التمثيل بسبب الخوف من آثار الزمن أو تقدم العمر كغيرها من الفنانات، ولذلك لم تغب عن جمهورها ومحبيها، ولم تختبئ خلف سنوات العمر التى زادتها جمالا وثقة وقوة، وعن ذلك تقول: «عمرى ما وضعت الجمال فى تقييمى لنفسى، أنا اشتغلت على العقل، وأمارس حياتى كما أريد، لأن الهروب من المرض والشيخوخة يضعف الإنسان، وأعترف أننى الآن لست أنا فى الشكل والصورة التى اعتاد الجمهور رؤيتها، لكن تقدم العمر أضاف لى خبرات وتجارب كثيرة، منها عمق التعامل، والحكمة، والرؤية المستقبلية، والآن أنا امرأة جميلة الفكر، أمتلك حرية الروح والإرادة والاختيار».
قدمت نادية لطفى أفلاما من علامات السينما المصرية، وتعاونت فيها مع كبار الأدباء والمخرجين والفنانين ومنهم، نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ومصطفى محمود، ويوسف شاهين وحسين كمال، وشادى عبدالسلام وغيرهم، واستحوذت على 6 أفلام ضمن تصنيف أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية، وهى «الناصر صلاح الدين، المستحيل، أبى فوق الشجرة، الخطايا، السمان والخريف، والمومياء الذى ظهرت فيه كضيفة شرف فى دور «زينة»، ورغم ذلك استطاعت أن تلفت الأنظار بأداء وصفه النقاد بالعبقرى، وحاز الفيلم عددا كبيرا من الجوائز العالمية، وتم تصنيفه كأفضل فيلم عربى.
وفى عيد ميلادها لا نملك إلا أن نقول لجميلة الجميلات: «كل عام وأنت قوية مقاتلة، جميلة متوهجة، رقيقة متمردة».