منذ أيام قليلة كشفت الدراسات عن بقايا قلعة مصرية قديمة على حدود البحر الأحمر تعود لزمن الرومان، ما يستدعى سؤالا مهما: كيف كان الفراعنة ينظرون إلى البحر الأحمر؟ وفى هذا التقرير نقدم إجابة على هذا السؤال وفقا ما جاء فى كتاب "الموسوعة الشاملة للحضارة الفرعونية" تأليف جى راشيه، ترجمة فاطمة عبد الله محمود، والصادر عن المركز القومى للترجمة.
يقول الكتاب جمع المصريون القدماء كلا من البحر الأحمر والبحر المتوسط تحت اسم واحد، هو "واج ورت" أى (الأخضر العظيم)، ومع ذلك نجد أن البحر الأحمر قد أشير إليه بصفة "البحر قودى"، وكان هذا المجال المائى المترامى المدى يكتنفه الكثير من الغموض والإبهام، ولذا لم يكن المصريون يبحرون فيه إلا نادرا، خاصة للتوجه إلى بلاد بونت، أو يطرقون بسفنهم أطرافه الشمالية للوصول إلى مناجم سيناء، ولم تستهل ولى الحملات عبر البحر الأحمر نحو بلاد بونت إلا فى عهد الفرعون "ساحو رع" ثانى ملوك الأسرة الخامسة، ومع ذلك يلاحظ أن هذا البحر كان يفتقر تماما إلى وجود ميناء يطل عليه، لذا كانت سفن جيبيل، وهى قادمة من سوريا، تمر بالبحر الأحمر عن طريق النيل والبحيرات المرة لتبدأ رحلتها نحو بوينت.
لكن بمجىء "الدولة الوسطى" وخلال إحدى الحملات التى قادها الوزير أمنمحات فى عهد الملك "منتوحتب" شيد الميناء المعروف حاليا باسم "القصير"، وكان المصريون عنئذ يسمونه "طوا" أو "(أو :سعو)، وفيما بعد عرفه الإغريق باسم (الميناء الأبيض). وأساسا كان يتم الوصول إليه عن طريق الصحراء الشرقية، وكان البحر الأحمر محاطا وقتئذ بمناطق وبقاع غير مألوفة أو مأمونة الجانب. فها هى "قصة الملاح الغريق " تصور لنا سفينة ضخمة وهى تنطلق نحو مناجم الفرعون، لا شك أنها الواقعة فى سيناء، فتهب عليها عاصفة هوجاء تبتلعها فى جوفها. ولم ينج من الملاحين سوى راوى هذه القصة، وهو يحكى أن الأمواج قد قذفت به إلى جزيرة "كا" أى (الروح)، حيث يهيمن ويسيطر عليها ثعبان ضخم عملاق يتسم بالطيبة ولين الجانب (ربما كان يطلق على نفسه لقب "ملك بونت"). وقد تنبأ هذا الملك الثعبان، للملا الناجى من الغرق، أنه فى خلال أربعة أشهر سوف تصل إلى الجزيرة سفينة مصرية لتحمل إلى وطنه. وبالفعل تحققت نبوءت تماما. وظل الرجل يمخر عباب هذا البحر المترامى الأطراف طوال شرين كاملين. وفى نهايتهما وصل إلى موطنه مصر محملا بالهدايا والعطايا التى قدمها له مضيفه الثعبان العملاق ملك الجزيرة. على ما يبدو، فإن الثعبان العملاق، قبل رحيل هذا البحار، كان قد أخبره أنه لن يرى ثانية هذه الجزيرة التى ستبتلعها مياه اليم.
وربما كان هذا الموقع هو ما عرف باسم "جزيرة السعداء الأخيار" التى عرفها المصريون تحت عبارة "تا نثر" أى أرض الإله، أو بالتحديد: المنطقة الشرقية التى تعيش بها الآلهة، ولكن على الرغم من ذلك، ما زالت هذه التا نثر، حتى يومنا هذا منطقة تكتنفا الأسرار وعدم الوضوح. ربما تقع على ضفتى المساحة الخضراء الكبرى، فقد ارتبطت بصفة عامة ببلاد بونت، وقد استعان المصريون فى هذا الصدد بصيغة الجمع أيضا، وهى الأراضى المقدسة، وبخلاف أرض بونت هناك أيضا السواحل الشرقية للبحر الأحمر.
وإيماء إلى حملته إلى بونت، خلال عهد الملك منتوحتب، ذكر القائد "حنو" أنه قد أحضر الكثير من الجزى والضرائب كان قد حصلها من القرى. وربما كانت هذه المواقع المستزرعة هى نفسها التى ذكرتها كتابات "الدير البحرى" إبان عهد حتشبسوت، تحت اسم "درجات البخور" (خنتو نيو عنتو) وفقا لذلك النص المصرى القديم. فإن كلمة ختى تعنى سلالم أو مدرجات أم "عنتى" فمرادفها: "البخور أو الروائح العطرية فلا شك إذن أن درجات الروائح العطرة هى إحدى مناطق التا نثر وفى واقع الأمر فإنها موقع فائق السحر والخيال، هذا ما تعرفه لنا تلك الكتابات بالدير البحرى، بل وتصور لنا أيضا الآلهة المصرية وقد نقلوا إلى بلد "بونت" هذا، وحيث ترى كذلك مجموعات من المصريين وهم يحملون سفنهم بأشجار البخور وبمختلف المنتجت المبهرة الخلابة بتلك المنطقة.
وربما كانت "درجات البخور" هذه تتطابق مع تلك الموانئ التى طرقها الإغريق وارتادوها بعد ذلك فى العصر البطلمى، وهى تمتد عبر ساحل الصومال، عند نهاية البحر الأحمر الحالية، بل وتفيدنا تلك الكتابات أيضا بالتعرف على منطقة أخرى تحاذى ساحل البحر الأحمر، كان المصريون يقومون بزيارتها بين وقت وآخر. إنها دون شك بلد "إيام" وتتطابق مع جزء من "الحبشة". وربما كان "ماسبيرو" على حق فى اعتقاده بأن سكانها ليسوا سوى الأجداد الأوائل لمن عرفوا فيما بعد بـ جالاس.