كمسلّة جرانيتيَّة، أو عمودٍ أسطوانىّ شاهقٍ فى أحد معابد الجنوب، انتصب الخصر الممشوق عقودًا، ونصّب نفسه بجدارة، جداريَّة بديعة تختزن تاريخ عصر وبلد، وتُكثِّف صراعاتٍ وتفاعلات وتحوّلات لا حصر لها، ويُمكن للرائى والمُستبصر والناظر فى العمق أن يروا فيها وجه مصر، دون عناء أو ادّعاء.
سيّدةٌ مُضيئة أينما حلّت، كأنها من زيتٍ ونار، تتّقد بشرتُها الخمريَّة بالفتنة فى صورةٍ بدويَّة مُنفلتة، ويملك جسدُها قاموسًا عريضًا من المُفردات البليغة منذ شطره الأوَّل، كأنَّما أسبغتها عليه الفِطرةُ، أو نقلها إليه ناقلُ الأرواحٍ وناسخُها. يكتمل عقد بهائها بوجهٍ مَليح كأنه منحوتة لملكةٍ مصريَّة قديمة، يميل إلى الاستدارة نوعًا ما، لكنه يُخاتلها إلى سَمتٍ بيضاوى كأنه مُشاكلةٌ للأرض فى بانوراميَّتها الفلكيّة. تتوزَّع عليه ملامح جميلة فى تجاورها، حتى وإن لم تبدُ من عائلة واحدة، فمن جبهة ضيقة لا تُجاوز ثُلث الوجه، يُحدِّدها حاجبان مُقوسَّان فى هيئة مُغويةٍ، كأنهما قوسا رامٍ عتيدٍ، إلى أنف دقيق يشبه جسرًا حادًّا بين لُجّتين، ينتهى بأرنبة منفوخة بحكمةٍ كقِربةٍ على كتفِ سقّاء عجوز، على جانبيها وجنتان كتَلَّتَين فى سَهلٍ فسيح، أسفلهما فمٌ واسعٌ كأنه بُحيرة طارئة فى وادٍ ضيّق، لينتهى الوجه بذقن حادّة فى استدارة، وما إن تبتسم «تحيّة» أو تنتشى فى رقصتها، حتى يتّسع فمها وتنكمش جبهتها وتنتفخ الوجنتان كنهدَى كاعبٍ لم يُرَق ماءُ عُذريَّتها، وبين صمتٍ وقول، وعبوسٍ وابتسام، وتجمُّدٍ وتمايل، يتوهَّج خمرُ الوجه، ويشتعل الخصر المُتّزن كأنّ لهيبًا يتراقص فى جذع شُجيرة كافور، يخبو الحُسن قليلاً قُدّام الشهوة، يمتدّ الصَهدُ وتنطلق جيوش الإغواء لتحتلّ صدور الناس.
فاتنة تتمشّى على أحداق الناظرين، مشى الفاكهة على شوق المواسم وانتظار الجائعين، كأنها بستان تفاح فى سلّة بائعة جوالة، أو مفتاح «نوار» على سطور نوتة يعزفها ربّابٌ مُشرَّد فى موالد الدلتا والصعيد، أو صارٍ سامق يحفظ اتزان سفينة العالم، ويدفعها إلى الأمام، وفى نحولها المُتقن امتلاء غريب، كأنه يخبئ مغناطيسًا يجذب الأنظار، وسنّارة تُمسك الأرواح من أطرافها، حتى تطعمها الحياة وتُطعم بها الفناء فى الآن نفسه، فكأنما تقبض على ما لا يُطال، وتخسر ما فى راحة يدك، كأنما تمشى إليها وهى السراب البعيد، ولا تصلها وهى الماء الموشوم على جفنى عينيك، فأنّى وليت وجهك ستراها تملأ مساحة النظر وتُطعم العين حدّ الشبع، وتتبدد كدخان يتسرب من شفتيك فى ليالى البرد، ومن سخونة الوصل وبرودة الفصل تُوقد فى اتساع صدرك اضطرابا ولوعة واشتياقا وهُياما وشهوة لا حدود لها، فكأنما لا أُنثى فى العالم سواها، وكأنها طعم السكر الذى يذوب ولا سبيل لديك لإطالة عمره فى فمك.
وطن على خصر
يمكن اعتبار تحيّة كاريوكا راقصة مصر الرسمية بامتياز، ليس لأنها الأشهر والأكثر تميُّزًا والأطول نشاطًا فى الرقص والتمثيل، أو أنها زاوجت فى مدرستها بين بلاغة الفولكلور وميراث الجسد الشعبى الساخن الشهى، وشىٍء من تعبيرية الرقص الحديث وانتظامه الإيقاعى وتحويل الأبدان إلى ألسنٍ ولغات، ولا لأنها لعبت دورًا وطنيًّا فى دعم المقاومة وجمع التبرُّعات للمجهود الحربى ومساندة الفدائيين وإيوائهم، ولكن لأن مسارها فى الحياة كان تلخيصًا واختزالاً عميقين لشخصية مصر ورحلتها فى القرن العشرين، وتحوّلاتها الدرامية والسياسية والثقافية، بقفزاتها المُضيئة، وتقهقرها من النور إلى الظلام. كانت «تحيَّة» تعبيرًا بليغًا عن مصر فى قرن كامل، ويمكن القول اقتباسًا، إن الله يبعث فى كل مائة سنة من يُعبّرون ببلاغة وعُمقٍ عن مجتمعاتهم، ويكونون مرايا صافية وصادقة لبلدانهم وناسها، و«كاريوكا» من هذا الصنف.
لم تدخل الشابة اليافعة عالم الرقص الشرقى من البوابة التى دخلتها سابقاتها، إذ اختلفت عن راقصات بداية القرن اللواتى كُنّ يعتمدن على نسق غرائزى يشتغل بالدرجة الأولى على استعراض مفاتن الجسد وتقديم حركات ذات طابع شهوانى، بعيدًا عن فكرة التناسق والتعبير الحركى والتكوينات الجمالية المتآلفة فى وحدة متماسكة تشكيليا وبلاغيا، فاعتمدت «تحية» على استدعاء باقة من مفردات الرقص الشرقى بطابعه الكلاسيكى، فيما يخص إعلاء الدور الأداتى للجسد وإقامة علاقة هارمونية بين مفرداته، والتوحّد مع الإيقاع والموسيقى بدون التورط فى تعظيم طاقة الفتنة والإغراء على حساب طاقة التعبير والإثراء، وبذلك اختلفت عن غيرها من الراقصات، سواء الأقدم ممن تعاملن مع الرقص كمهنة فقط، أو طريقة لاستثارة قيم الذكورة وإشباعها، أو المجايلات والتابعات ممن قطعن شوطا بعيدا فى الإزاحة من حديقة الرقص الشرقى إلى تقنيات أداء غربية الطابع، فبينما اعتمدت سامية جمال مثلا على مزج الرقص الشرقى بالغربى، والاستفادة من بعض الجمل البصرية والحركية المستجلبة من سياقات ثقافية أخرى، عادت «كاريوكا» إلى هارمونية الشرق مُحمّلة بوعى الغرب، فأقامت حوارات عميقة وبليغة مع الموسيقى والإيقاع والمكان والزمان والعيون والعقول، بالتشابه أو المفارقة، وكأنها أقرب إلى الدرس الثقافى المقارن. وإذا كانت كل لغة تكتنز جمالياتها وبلاغتها، وفق بنائها النحوى والصرفى واتساع مجالاتها الدلالية، فإن «كاريوكا» كانت لغة فالرقص، تملك جماليات خاصة جدا، وتحوز جسدا بليغا ومُجيدا للتعبير، كل رفّة فيه حرف، وكل خطوة مفردة، وجماع الرفّات والحركات قاموس كامل من الإبانة والفصاحة وإحكام السيطرة على الأسماع والأفهام.
صنعت «تحية» مدرسة خاصة فى الرقص، لم تتعلَّمها فى شوارع الإسماعيلية وأفراحها، ولا فى كازينو بديعة وأجوائه، وإنما انتخبتها ممّا عاشت ورأت وتعلَّمت وجرَّبت، فكانت وَصفتُها خليطًا من الشرق والغرب، تصنع مستويَين أدائيَّين مُتداخلين بعُمقٍ وتناغم ضمن بنية الرقص الشرقى، وملامحه الظاهرية شبه المعياريَّة، وقد توزَّع المستويان بين اكتناز مخزون الرقص الشعبى وتوظيف الجسد كأداة للفتنة والإغواء، والاتّكاء إلى مفاتيح وتقنيات ذات طابع تعبيرى وهارمونى، يتداخل مع الموسيقى بشكل عضوى، ويقيم حوارًا مُنغّمًا فى الزمان والمكان، هكذا كانت تعمل فى الوقت نفسه على التقنيتين: أن تكون حُرَّة ومُنطلقة فى مساحة جغرافية واسعة نسبيًّا، تحكمها الإيقاعات المُنتظمة وإعادة إنتاج الجملة الموسيقية بصريًّا، بمراوحات متنوِّعة ومُتقافزة، وأن تقبض على الليونة ووظيفية الجسد كمدخل للشهوة دون إفراط أو تفريط، وبين الحالين لا يمكنك القبض على واحدة أو الإفلات من الأخرى، فأنت لن تصل إلى النشوة القصوى، إذ ينضبط الإغواء بالإيقاع محسوب المسافة، ولن تسيح فى الفضاء الذى تتقافز فيه المُؤدِّية النشطة، إذ يظلّ الجسد الليِّن بؤرة مركزيَّة، حتى وإن بسط عليها الإيقاع غلالة من العلاقات الرياضية بين النغمة والحركة، فإذا كان الرقص الشعبى يعتمد الجسد منصة واحدة للأداء، وكان الرقص المتأثر بالمدارس الغربية ومذاهب الأداء الحديثة يوظفه كـ«موتيف» أو عنصر تعبيرى فى مساحة أداء أوسع، فإن «تحية» كانت تُزاوج بين الأمرين باقتدار بليغ: فهى فى المستوى الأفقى أداة تعبير تتحرك فى فضاء تتكامل عناصره البصرية، وفى المستوى الرأسى فإن جسدها مساحة تعبيرية مغلقة على نفسها، وبالمستويين كانت تصنع حالة هارمونية مركبة من حوارية المادة والروح، المكان والشعور، فتأسر عيون المتابعين، وتملأ صدورهم فى الوقت نفسه.
ابنة المدّ الثورى
سبقت تحية ثورة 1919 بأقل من خمسة عشر يومًا، إذ وُلدت فى 22 فبراير واندلعت الثورة فى 9 مارس، وبينما كانت مصر تُعارك قيود معاهدة 1936، هربت الفتاة الصغيرة من أسرتها فى الإسماعيلية، من شقيق متغطرس ووصاية غشوم، ليس مَحبَّة فى الفن والرقص، وإنما بحثا عن الحرية وإطلاق جسدها من قيوده، كانت القاهرة وقتها مشدودة بين شعورين: غطرسة الاحتلال ورغبة الفكاك منه، وتطلُّعات المدنية والاستفادة من ثقافة المُحتل وشيعته، وقتها كانت «تحيَّة» فى الفرع الثانى لكازينو بديعة مصابنى على نيل الجزيرة «موقع فندق شيراتون حاليًا» تستقى معارفها من راقصة لبنان الشهيرة، على أيدى حفنة من المُدرِّبين ومُصمِّمى الرقصات الأجانب، أبرزهم الخواجة إيزاك الذى أعاد تصميم رقصة «الكاريوكا» ذات الأصول البرازيلية، وهندستها؛ لتتماشى مع شخصية المُراهِقة ذات الطابع الشعبى، وجسدها المُنفلت من كل عقال.
تدفَّقت كتائب وسرايا الجيش المصرى على أرض فلسطين فى مايو 1948، بعد إعلان قيام إسرائيل واستباحة العصابات الصهوينية للأرض والناس، وتوجَّهت قلوب ودعوات ملايين المصريين إلى جبهة الحرب ولوائنا الرابع المُحاصَر فى الفالوجة، بينما كانت «تحيَّة» تدعم الفدائيِّين وتنقل الأسلحة فى سيّارتها الخاصة، عاد الضُبَّاط الأحرار من الجبهة مكسورين ومطعونين بالهزيمة الغادرة، وكانت «تحيّة» تُعانى تبعات مواجهتها للملك فى إحدى صالات السهر، حينما رأته فاقتربت منه قائلة: «مكانك مش هنا يا ملك، أُمّال مين اللى يقعد فى القصر»، وحينما خاضت مصر بكاملها مواجهة مع العدوان الثلاثى، كانت «كاريوكا» تحمل السلاح وتجمع التبرُّعات للمقاومة، وفى يوم الهزيمة القاسية، 5 يونيو 1967، وقفت على جبهة الحرب مُتطوِّعة فى الهلال الأحمر.
اندلعت ثورة يوليو 1952؛ لتكون بمثابة القطيعة بين مصر وسياقها القديم، أدناها التحول من الملكية إلى الجمهورية، وأعلاها مغادرة حظيرة الإقطاع وإعادة هندسة البنية الاجتماعية وفق نسق مغاير، أكثر عدالة وانتصارا لملح الأرض، للجوهر العميق بعيدا عن الظاهر المبهرج، وفى المسار نفسه كانت «تحيّة» تُعلن قطيعتها الكاملة مع سياقها القديم، مع فتنة المظهر لصالح فتنة الجوهر، توقفت عن الرقص الشرقى تماما، متحوّلة بكاملها إلى عالم التمثيل، ومنذ منتصف خمسينيات القرن العشرين لم تعد الراقصة الممثلة، ولم تختصر جماليات جسدها فى خصرها المنحوت البليغ، وإنما فتحت له الباب على مصراعيه ليمارس بلاغة أعمق وأكثر لمعانا فى عشرات الأدوار والشخصيات التى لعبتها، فى مكتبة ضخمة ضمت 130 فيلما وعشرات المسلسلات والمسرحيات، من لعبة الست وشباب امرأة، حتى وداعا بونابرت ومرسيدس والجراج.
أخفت «كاريوكا» الضابط المفصول أنور السادات، إبان قضية اغتيال وزير المالية أمين عثمان، وواجهت ضباط يوليو بعدما رأت أنهم ينحرفون عن مسار الثورة، قائلة بوضوح وثبات: «ذهب فاروق وجاء فواريق»، لكنها تبرَّعت لإعادة بناء الجيش وحافظت على إيمانها بحركة الضُبّاط. وخلعت حذاءها مرَّتين؛ لتنتصر للوطن والقضايا القومية: الأولى حينما سمعت النجمة الأمريكية سوزان هيوارد فى مهرجان كان 1956 «كانت تحيّة تشارك بفيلم شباب امرأة»، تنتصر للدولة الصهيونية وتسخر من العرب، والثانية فى فندق سميراميس على نيل القاهرة، حينما حاول عضو بالكونجرس الأمريكى الرقص مع فاتن حمامة، وجذبها من يدها عنوة. انتمت للحركة الوطنية للتحرُّر الوطنى «حدتو» وسُجنت بسببها فى الخمسينيات، وقتما كانت مصر يسارية الهوى، حتى لو انحرفت التجربة من الاشتراكية إلى رأسمالية الدولة، وتحوَّلت باتجاه اليمين الدينى المحافظ، مقتربة من الشعراوى ومُساعدة له فى نشاط تحجيب الفنانات، حينما طغت الجماعات الدينية على وجه مصر بدعم من السادات، وعلى امتداد رحلتها كانت «تحيّة» نموذجًا مُختصرًا ومُكثّفًا لمصر. ناضلت وقتما كان البلد يناضل، وانكسرت وقتما انكسر، تَمَركَست وقتما تَمَركَس، وتأسلمت حينما تأسلم. كانت وطنًا صغيرًا فى جسد مُثقف وبليغ، لم تمسخه عباءات المُتشدِّدين، أو بالأحرى كان الوطن منقوشًا على خصرها، لا يُمحى، وإن غطّاه الكارهون للحياة الُمتمرِّدة على القولبة والتنميط.
الأنثى والوطن وسوء الحظ
مضت مصر فى طريقها منذ ثورة 19 «ميلاد تحيّة» تكتشف نفسها، وتُجرّب ما يُتاح لها من خيارات، وتتفحص تفاصيلها الطارئة وجغرافيتها السياسية والاجتماعية الآخذة فى التعقد، وفى كل تحوّلاتها كانت مُخلصةً للحياة وسلسالها القارّ والمتجدِّد فى عروق الطين، وكانت تحية مُخلصة للحياة وجادّة فى استكشاف نفسها أيضًا، بدأت راقصة ثم وسّعت مجال أدائها للتمثيل، ثم اكتفت بأن تكون ممثلة أنجزت قرابة 127 فيلمًا لم ترقص فى أغلبها، وعشرات المسلسلات التليفزيونية والإذاعية، والمسرحيَّات السياسية التى جابت بها محافظات مصر، وعرضتها فى المدارس والمستشفيات، وتزوّجت 14 مرة على أشهر الروايات - 17 مرة حسب رواية ابنة أختها الفنانة رجاء الجداوى - أشهرهم: أنطوان عيسى ابن شقيقة بديعة مصابنى، المخرج فطين عبدالوهاب، والممثل والمخرج والطيار والمذيع أحمد سالم، وطيار الملك فاروق الخاص حسين عاكف، ورشدى أباظة، والمخرج المسرحى حسن عبدالسلام، فيما يبدو أنه كان بحثًا دائمًا عن اكتمالها فى الآخرين، وكما كانت مصر تعيسة فى زيجاتها ومن اعتلوها فى كثير من محطّاتها بالقرن العشرين، كانت «تحيّة» سيّئة الحظ فى رجالها، فالفاتنة التى تتّقد شهوة وإغواء، وتجتهد فى إطعام تُفّاحها وعسلها لأحبّتها، لم تسلم من الخيانة فى أغلب تجاربها، الخيانة كاكتمال فى أنثى بديلة، والخيانة كاستلاب لوطنٍ وحُلم مشتركٍ، حتى عندما شاخت، وكان الشريك شيخًا «الكاتب المسرحى فايز حلاوة» كانت الخيانة غُربةً وتغريبًا واستلابًا للبيت/ الوطن الصغير، إذ تزوج فى منزلها وألقاها إلى المجهول حتى ساعدها نفر من محبيها ووفروا لها بيتًا بديلاً، ورغم بحثها الدؤوب عن الحب واستعدادها الدائم للتورط فيه، لم تر رجالها إلا «مجموعة من الخسيسين أبناء الزنا» بحسب ما قالته للمفكر العربى الكبير إدوارد سعيد فى لقاء جمعهما أواخر الثمانينيات ونشره فى مقالته الشهيرة «تحية إلى راقصة».
«الكلمة ملكةُ ومالكة، فهى تمتلك من يقولها، كونى شجاعة وتمسَّكى بما تقولين، واعلمى أن الكذب بداية كل الخطايا».. هكذا تنقل رجاء الجداوى وصيّة خالتها الذهبية، فأنّى للراقصة أن تقف على قدسيّة الكلمة - إن كانت راقصة وحسب - إن لم تكن بليغة ومُتكلِّمة؟! ومن ألقى فى روحها تلك البلاغة وقد هربت من المراهقة الفقيرة الجهول إلى الرقص ولم تُكمل السابعة عشرة؟!.. هنا يكتسب الرقص معانى أكبر وأجلّ، شطرٌ منها يتّصل بما فى الجسد المُتكلّم من إجلال وقداسة، لكن الشطر الأكبر ممّا فى روح «تحيّة» من ذاكرة حيّة للوطن، وتجسيدًا حصيفًا لحوادثه، وتمثّلاً - بوعى أو بدون وعى - يُطابق ما عاينه التراب وناسه، وكأنها قُدّت من طين البلد ولمّا يجف بعد، أو تتبخّر منه روائح أحلام وحوادث، ودراما تترك شيئا منها فى كل وليد، وبهذا النزر من الحكمة ظلّت «كاريوكا» مُنتجة للدهشة، حتى وهى تستغفر الله عن سنوات الفن، وتتأهب لرحيل تحت لواء المدّ المتأسلم، بينما تعهد بـ«عطيّة» البنت التى وجدتها رضيعة أمام باب بيتها، وتبنّتها آخر 5 سنوات من عمرها، لصديقتها «فيفى عبده» أُمًّا بديلة، وكأنها تُشبه مصر المربوطة وقتها إلى أقدام الإسلاميين، يُجرجرها المُلتحون مُقصّرو الجلابيب، وتتشبَّث بأظافرها فى عمود أسطوانى ضخم بأحد معابد الجنوب، أو بطرف «بدلة رقص» تشفّ عن جسد مُكتنز بالمعرفة الموروثة، يختزن شيئًا من روح مصر، ويطهرُ أشياء من ذاكرتها الحيّة، حتى لكأنَّها فى هذه الرحلة الطويلة كانت بحق «وِسْط البلد»، ووجه مصر المنقوش على خصرٍ بَليغ.