بحنجرته تحررت بيوت السويس ومواقفه السياسية حبست فنه فاشتهرت أغانيه بعدما غناها غيره.. رفيق عمره: أخفيته فى بيتى قبل اعتقاله.. وهذه تفاصيل سنوات مرضه وعزلته
"يابيوت السويس يابيوت مدينتى أستشهد تحتك وتعيشى إنتى"..هذه الكلمات التى انطلقت من حنجرة الفنان محمد حمام فكان لها تأثير الرصاص وقت المعركة، وألهبت المشاعر والحماس فرفعت الروح المعنوية للجنود والمدنيين بعد النكسة ولملمت الجراح فاصطف الجميع يقاوم ويدافع عن الأرض حتى تحررت وعادت بيوت السويس.
وعلى الرغم من أن هذه أغنية من أشهر أغانى المقاوم الفدائى محمد حمام المظلوم حيا وميتا والذى تحل ذكرى وفاته الثانية عشر، إلا أنها كانت أيضا سببا غير مباشر فيما وقع عليه من ظلم حيث يقتصر الكثيرون فن وإبداع حمام فى هذه الأغنية، بالرغم من تاريخه الفنى الطويل وشهرته العالمية وأغانيه الأخرى التى تغنى بها مشاهير المطربين فالتصقت بهم ليظل مغنيها الأصلى كجندى مجهول لا يذكر اسمه ولكن يبقى تأثيره وأثره إلى أبد الدهر.
"أه يالالى، جدف يامراكبى، قولوا لعين الشمس، العنب، الليلة ياسمرا، الأم، عم ياجمال، بتغنى لمين ياحمام، حبايبنا راحو فين، والله بكرة ليطلع النهار" وغيرها عشرات الأغانى الوطنية والعاطفية التى غناها هذا الأسمر المنتمى لكل أرض مصر، فهو مولود فى بولاق لعائلة من أسوان، وغنى لبيوت السويس وللجنود على الجبهة وفى شوارع السويس بعد النكسة وخلال حربى الاستنزاف وأكتوبر، بلكنة نوبية صعيدية، تحمل رائحة الطمى ولون النيل.
جزء من الظلم الواقع على هذا المطرب المقاوم يعود إلى مواقفه السياسية التى ظهرت فى وقت مبكر، فالفنان المولود عام 1935، واسمه محمد سيد محمد ابراهيم، كان أحد أعضاء الحزب الشيوعى المصرى " حدتو"، وقضى سنوات من شبابه فى المعتقل، فتم اعتقاله للمرة الأولى عام 1954 وبعد الافراج عنه التحق بكلية الفنون الجميلة وظل نشاطه السياسى حتى تم القبض عليه عام 1959 وظل بالمعتقل حتى عام 1964، وتعرف خلاله على عدد من المفكرين والكتاب اليساريين، ومنهم الفنان التشكيلى والصحفى حسن فؤاد، وخلال هذه الفترة انتشرت شهرته فى المعتقل حيث كان يردد الأغانى التى تدعو للحرية، وبعد الافراج عنه قدمه حسن فؤاد للحياة الفنية وتعرف على الشاعر عبدالرحمن الأبنودى الذى كتب له أغنية يابيوت السويس، وقدمته سلوى حجازى فى برنامج "الفن والحياة" إعداد حسن فؤاد.
وبعد النكسة كان حمام أحد مؤسسى فرقة الأرض التى كونها الفدائى كابتن غزالى وكان لها دور كبير فى المقاومة الشعبية بالغناء ومساعدة الجرحى وتوصيل الذخائر للجنود والدفاع عن مدينة السويس، وطافت الجبهة وسط الجنود والضباط بعد النكبة.
ورغم دوره الوطنى إلا أن مواقفه السياسية تسببت فى حبس فنه وأغانيه وعانى من التضييق فترة السبعينات خاصة بعدما أصدر الكاتب الكبير «توفيق الحكيم» بيانا سياسيا وقع عليه محمد حمام ضمن مجموعة من السياسيين والشخصيات العامة، وكتب «موسى صبري» رئيس تحرير جريدة الأخبار فى ذلك الوقت مقالا فى الصفحة الأولى معلقا على البيان بعنوان «حتى أنت يا حمام»، فصدر قرار بمنع حمام من الغناء فى الإذاعة والتليفزيون.
وسافر صوت المقاومة خلال هذه الفترة ليواصل الغناء الوطنى فى ليبيا والعراق واليمن والجزائر، ثم سافر إلى فرنسا، وشارك كمطرب وممثل فى فيلم من إنتاج تونسى فرنسى مشترك بعنوان "سفراء"، وسجل بصوته أغنيته الشهيرة "بابلو نيرودا"، التى كتب كلماتها الشاعر سمير عبدالباقى ولحنها عدلى فخرى وحققت نجاحا كبيرا وبيعت منها آلاف النسخ فى فرنسا وأمريكا اللاتينية والبلاد العربية وكان له دور ريادى فى التعريف بالفن المصرى من خلال المهرجانات الدولية وتقديمه وسط الفنون التراثية فى العالم.
ثم عاد حمام إلى القاهرة وأسس مكتبا هندسيا بالقاهرة، وكان أحد مؤسسى حزب التجمع التقدمى الوحدوى وهو ما زاد من الظلم الفنى الواقع عليه.
وفى عام 2000 أصيب الفنان المقاوم بجلطة فى المخ وعانى حتى وفاته فى 26 فبراير عام 2007 من المرض والاكتئاب والإهمال الفنى، وأمر المشير طنطاوى بعلاجه فى مستشفيات القوات المسلحة وبعد وفاته تم نقل جثمانه بطائرة عسكرية ملفوفا بعلم مصر وكان فى استقبال الجثمان المستشار العسكرى ومحافظ اسوان، وأطلقت المدفعية احدى وعشرون طلقه وعلق المحافظ قائلا ان حماسه وغناؤه مع فرقة السمسمية على الجبهة مع الفدائيين لا يقل عن أى جندى صوب مدفعه نحو العدو، ونكست الأعلام بمدينة السويس.
تحدثنا مع المهندس عفت رزق صديق عمر الفنان الراحل محمد حمام وزميله فى كلية الفنون الجميلة والذى أخفاه لمدة 6 شهور فى منزله فى نهاية الخمسينات عندما كان حمام مهددا بالاعتقال رغم أن والد عفت وشقيقه كانا وقتها ضابطين بالبوليس، واستمرت هذه الصداقة حتى أخر يوم فى عمر الفنان محمد حمام.
"فنان مظلوم"..هكذا وصف المهندس عفت صديقه الراحل قائلا:" كان فنان وسياسى، وانضم فى شبابه للحزب الشيوعى المصرى فى الخمسينات، واعتقل عام 1954 حتى تم الافراج عنه عام 1956"
وأوضح المهندس عفت أنه تعرف على الفنان محمد حمام بعد التحاقه بكلية الفنون الجميلة عام 1956، مشيرا إلى أنه كان يغنى للمعتقلين خلال فترة وجوده بالسجن، كما كان يغنى لزملاءه بالكلية، وجمعتهما علاقة صداقة قوية.
" فى ليلة رأس السنة وتحديدا فى 31 ديسمبر عام 1958 كان هناك حملة اعتقالات لأعضاء الحزب الشيوعى المصرى، ولكن حمام هرب قبل اقتحام منزله فى بولاق أبو العلا"
وأكد عفت أنه اصطحب حمام ليخفيه فى منزله بعد أن قضى اياما مختفيا فى مستوقد ببولاق، وأرسل ليطلب منه ملابس لأنه هرب من بيته بالبيجامة.
" اصطحبته لأخفيه فى بيتى رغم أن والدى وشقيقى كانا ضابطين بالبوليس، ولم تعرف سوى أمى بأنه هارب من الاعتقال وتعاطفت معه، وظل معى أسابيع وبعد أن ترك منزلى تم اعتقاله وكان ذلك عام 1959 وبقى فى المعتقل حتى عام 1964، وبعد الافراج عنه استكمل دراسته"
وتابع: " لم افكر وقتها فى أى عواقب سوى مساعدة صديقى وكانت كل الشواهد تستبعد أن يختفى فى بيتى، خاصة وأننى اختلف عنه فى الديانة واللون والتوجه، فلم يكن لى نشاط سياسى وقتها"
تحدث المهندس عفت عن دور صديقه الوطنى خلال الفترة بعد نكسة 67 وحتى نصر أكتوبر مع المقاومة الشعبية والجنود على الجبهة وفى فرقة أولاد الأرض وتحدث عن الظلم الواقع عليه قائلا :" رغم دوره الوطنى لكن شهرته فى الخارج كانت أكبر من شهرته بمصر، فخلال السبعينات عانى من التقييد، وسافر وكون فرقة فى الخارج واشتهر فى أوربا وفرنسا أكثر من شهرته بمصر، وكان يغنى بلكنة مصرية نوبية"
وتابع :" كان ابن مصر كلها وعشق ترابها، فكان أحد أقوى أساليب المقاومة مع فرقة الأرض وكابتن غزال، ولكنه لم يأخذ ما يستحقه من شهرة بسبب مواقفه السياسية"
يحكى صديق المقاوم الفدائى عن الفترة الأخيرة من حياة صديقه :" تزوج أكثر من مرة ولكنه لم ينجب"
وأضاف : " عانى محمد حمام من المرض أخر 7 سنوات فى حياته، حيث أصيب عام 2000 بجلطة تسببت فى شلل بيده وساقه وظل قعيدا حتى وفاته عام 2007، وخلال هذه الفترة تنقل بين عدد من المستشفيات"
لم يفارق المهندس عفت رزق صديق عمره خلال فترة مرضه، وكان يحاول أن يرفع عنه أثار الإهمال والظلم خاصة فى فترة مرضه، وكان كثيرا ما يسعر بين معارفه من الشخصيات العامة ومنهم الشاعر فاروق جودية والكاتبة سكينة فؤاد، حتى يلقى صديقه خدمة طبية جيدة: "فى إحدى المرات تدخل الفنان عادل إمام واتصل بوزير الصحة حتى يتم نقل حمام لمستشفى مناسب وبالفعل تم نقله لمستشفى الجمهورية فى غرفة مجهزة وظل بها لمدة 6 شهور، وبعدها تم نقله لمركز التأهيل المهنى بأحد مستشفيات القوات المسلحة".
"كان يطلب منى ورق وأقلام وكان يكتب الشعر ويرسم بيده السليمة حتى أخر لحظات حياته، وفى أخر فترة من عمره أخبره الأطباء أنه يجب بتر ساقيه، ولكنه توفى بعد يوم من الغيبوبة مساء 26 فبراير 2007 وتم دفنه فى اليوم التالى".