عانى اليتم والحرمان ولم يذق يوما طعم السعادة، رغم ما وصل إليه من شهرة ونجومية، ظل قلبه الحائر يبحث عن الحب منذ مولده، يلهث وراءه كطفل يتيم يشتاق إلى حضن أمه، ويبحث عن حنانها فى عيون كل الأمهات فلا يشبع ولا يعرف طعما للراحة والاستقرار.
هكذا كانت حياة العبقرى أحمد زكى اليتيم المحروم الذى أشبعنا حبًّا وفنًّا، عرف كل أشكال المعاناة والألم، وترجمها فنًّا يفيض بالصدق والإبداع، نسج من قلبه وعقله وجسده مشاعر وأحاسيس جعلته ينبض بأحاسيس كل شخصية جسدها، فأصبح قادرا على إقناعك بأنه الرئيس والزعيم والوزير والبواب والغفير والموظف والضابط الشرس والمجند البسيط البرىء، والدجال والطبيب والمدمن، والمصور الذى تنظر إلى وجهه كى " تطلع الصورة حلوة".
لم يكن أحمد زكى يمثل بل كان يعيش بالفن يتحول ليتوحد مع الشخصية التى يؤديها، كان الفن حياته التى لم يحيها كباقى البشر، تلك الحياة التى حرمته من أبيه وأمه، فتوفى والده قبل أن يكمل عامين وتزوجت والدته وعاشت بعيدا عنه، ليبقى هذا الطفل اليتيم الذى رافقه العذاب والألم طوال حياته فى بيت جده لأبيه فى حالة عطش دائم لحنان الأم الذى لا يرويه لقاءات وزيارات بسيطة يزورها فيها، فيرى إخوته من أمه ينعمون بحنانها دائما بينما هو يراها على فترات متقطعة.
اختزن الفتى اليتيم كل المشاعر الحزينة وترجمها فى موهبة فذة ظهرت فى مدرسة الصنايع فنصحه الناظر أن يتجه لدراسة التمثيل.
استطاع النمر الأسد الذى حرمته ملامحه ولونه من بطولة فيلم الكرنك بعدما استكثر عليه المخرج أن تحب السندريلا الجميلة هذا الفتى الأسمر ذى الشعر المجعد، أن يغير خلال مسيرته الفنية الصورة النمطية للجان، وأن يضع بملامحه وصدقه ومشاعره مقاييس أخرى لفتى الأحلام.
حالة حب وعشق من نوع فريد نشأت بين النمر الأسود العملاق أحمد زكى الذى تحل ذكرى وفاته اليوم وبين الجمهور، ربما كانت البديل الأقوى والعشق الوحيد الذى كتب له أن يكتمل ويستمر إلى الأبد بديلا عن قصص حب ومشاعر من نوع آخر لم يكتب لها أن تكتمل فى حياة النجم الراحل.
خلت حياته من السعادة فى الحب رغم فيض المشاعر والأحاسيس، فاستعاض وتشبع بحب الفن والجمهور، وأيقن أن هذا العشق المتبادل سيكون هو الحب الخالد والوحيد فى حياته وبعد مماته.
حكايات وقصص حب كثيرة لم تكتمل فى حياة النجم الراحل أحمد زكى، حتى تلك التى توجت بالزواج من الفنانة الراحلة هالة فؤاد، وكان نتاجها ابنه الوحيد هيثم لم يكتب لها أن تستمر؛ لأن النجم الاستثنائى كان يحلم بأسرة مستقرة وزوجة وبيت وأطفال لا يتعرضون لما تعرض له فى طفولته، وطلب من زوجته بعد الإنجاب التفرغ للحياة الأسرية واعتزال الفن، ورفضت الزوجة الفنانة ووقع الطلاق بينهما، وفى أحد حواراته اعترف أحمد زكى بأنه ظلمها وانهار انهيارا شديدا بوفاتها، ولم يتزوج بعدها.
استطاع النجم الاستئنائى الاستحواذ على قلوب الكثيرات سواء من الوسط الفنى أو خارجه، وانطلقت الكثير من الشائعات التى تشير إلى بدايات علاقات حب جمعته مع بعض الفنانات ومنهن الفنانة شيرين سيف النصر، والنجمة الجميلة المعتزلة إيمان الطوخى، كما تناثرت الكثير من الأقاويل خصوصا خلال فترة مرضه حول علاقته بالفنانة رغدة التى كانت لا تفارقه خلال فترة إقامته بالمستشفى.
وحسمت رغدة فى حوار تلفزيونى حقيقة هذه العلاقة بعد وفاة الإمبراطور قائلة: "نعم أحببت أحمد زكى وأحبنى، وهذه هى الحقيقة"، رغم أنها كانت تنكر ذلك من قبل، وقالت إن علاقة حبها بأحمد زكى شرف لم تنله، ولكنه كان توأم روحها.
وتابعت: "لم يكن هناك عيب في الحب المتبادل بينى وبين أحمد زكى ، فقد كان غير مرتبط وأنا كذلك"، مؤكدة أنه عرض الزواج عليها في آخر أيامه ولكنها رفضت، وفسرت ذلك بقولها: "كنت أرفض تماما فكرة أن أرتبط به من أجل أن أرعاه فلو كنت قبلت وقتها سيفسر الآخرون وقوفي بجواره أثناء محنته على أنه واجب، ولذلك رفضت، وكان يريد أن يحميني من كلام الناس، رغم أنه كان يحتضر خوفًا علي من الشائعات".
ربما يفسر عدم اكتمال قصص الحب فى حياة الإمبراطور أحمد زكى كثيرا من مواقف حياته ومنها رفضه الاستقرار في منزل، بعد انفصاله عن زوجته هالة فؤاد، حيث كانت أغلب إقامته في أحد الفنادق المطلة على النيل، واختار غرفتين كان يقيم فيهما الموسيقار المبدع بليغ حمدي، لتلحين إبداعاته.
كان الفن هو العشق الوحيد المكتمل فى حياته وكان على استعداد للتضحية بأى شىء من أجله، يلهث ليجيد فى كل تفصيلة صغيرة حتى وإن كان سيضحى من أجلها بجزء من جسده ودمه وصحته، ومثال ذلك ما روته الفنانة سميرة عبد العزيز عندما عرف أحمد زكى بأن زوجها الأديب محفوظ عبد الرحمن يكتب ناصر 56 وأراد أن يجسد شخصية الزعيم ولكن عبدالرحمن قال له: «ماتنفعش يا أحمد، عبدالناصر جامد وانت قليل».
وقالت سميرة عبدالعزيز فى حوار معنا :"أحمد زكى كان هيتجنن على الدور واشترى بدلة منجدة وعمل سوالف بيضا وركب مناخير، وفى صباح أحد الأيام طرق باب منزلنا فى الثامنة صباحا، وأصبت بالذهول عندما رأيته أمامى وكأنى أرى عبدالناصر، فقال لى: «فين الأستاذ»، وكان محفوظ نائما، فقال «صحيه»، وبالفعل قلت لمحفوظ: «قوم عبد الناصر بره»، وبمجرد أن رأى أحمد زكى قال له: «خلاص يا أحمد هاكتبهولك وهتعمله والله».
وكشفت أن الامبراطور كان ينوى إجراء جراحة لتكبير أنفه مثل عبدالناصر، ولكن محفوظ عبدالرحمن أقنعه بأن يستوحى روح عبد الناصر وليس مواصفاته الجسمانية فقط.
كما ذكرت الفنانة رجاء الجداوى أنه كان يحرص على أن يحمل صناديق المياه الغازية ويمسح سلالم العمارة كلها حتى يشعر بالإجهاد الحقيقى فى فيلم "البيه البواب"، وهكذا كان أحمد زكى صادقا لا يمثل، ولكن يعيش بجسده فى شخصياته ويعطيها من روحه فيخلق منها شخصيات حقيقية، وظل يمثل حتى آخر لحظات حياته وهو يتألم من مرض خبيث نهش الجسد الضعيف ولم ينل من الروح المضيئة التى تشع فناً وحياة.
وعلى مسرح مدرسة السعيدية كان المشهد الأخير الذى انطفأت بعده الأنوار، رفع يده وهو يؤدى آخر مشاهده فى فيلم "حليم" ليشير للجمهور الذى تبادل معه حالة عشق فريدة كان سببها ونتاجها مئات الإبداعات، رفع عينيه للأفق البعيد وهو يصارع الموت بعد رحلة طويلة مع المرض، مر أمامه شريط حياته بكل نجاحاته وإحباطاته وأفراحه وأحزانه، وكأنه يرى ملايين الجماهير يودعونه فى المشهد الأخير الذى لن يراه، فيشير لهم بعيون يملأها الحب ليكون جمهوره أخر من يراه وبعدها ينطفئ النور ويفقد النجم الكبير الاستثنائى البصر، كما حكى الدكتور ياسر عبدالقادر الطبيب الخاص للراحل أحمد زكى عن تفاصيل مرضه وأيامه الأخيرة.
شعر النجم بأنه ضيف استثنائى فى هذه الدنيا فغادرها دون أن يكون له فيها زوجة أو بيتا ولكنه ترك فيها ما هو أبقى وأقوى فنا وحياة وإبداعا وحبا وجماهيرية ستبقى إلى الأبد.
وغادر الضيف الجميل دنيانا في 27 مارس 2005، وهو لا يمتلك إلا 130 جنيهًا، بعدما تصدق بمعظم أجره عن فيلم "العندليب" لعلاج فنان شاب أُصيب بنفس المرض، كما دفع نفقات العُمرة لثلاثة موظفين في المستشفى، ورحل "الإمبراطور" تاركًا وراءه كنوزا من الحب والفن والإبداع.