بين "التأريخ والتكريم" تثير أعمال السير الذاتية للمشاهير جدلاً كبيرًا يبدأ منذ الإعلان عن التحضير لعمل يتناول قصة حياة هذا النجم أو ذاك، وتنقسم وجهات النظر لفريقين الأول يؤيد فكرة إنتاج أعمال تخلد حياة النجوم تكريمًا لعطائهم الفنى، والآخر يرى أنه مهما اقتربت الدراما من درجة الكمال إلا أنها يعوزها الأمانة فى نقل واقع هذه الشخصية، فالبعض يبالغ فى إبراز الجوانب الإيجابية للحد الذى يصل بالشخصية إلى المثالية، وأصحاب هذا الرأى يضعون أنفسهم فى مواجهة فريق يرى ضرورة تناول الجوانب المظلمة من حياة تلك الشخصيات مهما بلغت فظاعتها فهى أشبه بالوثيقة، وبين هذا وذاك يبقى التساؤل مطروحًا؛ ما الغاية من إنتاج أعمال السير الذاتية هل تكريم تلك الشخصيات بإظهار الجانب المثالى وتطهيرها من كل سوء، أم رصد حياوتهم مهما بلغت سوء تفاصيلها؟!
تقودنا تلك السطور للحديث عن فيلم السيرة الذاتية Bohemian Rhapsody بطولة النجم العالمى رامى مالك ذو الأصول المصرية، صاحب جائزة الأوسكار فى آخر نسخة لها، ربما يكون الفيلم مُستساغًا لمحبى فريق الروك البريطانى "كوين"، لكن أى شخص يرغب فى الحصول على صورة أكثر عمقًا لمغنى الفرقة "فريدى ميركورى" – وأنا منهم - سيصاب بخيبة أمل، إذ بدا الفيلم مشوشا إلى حد كبير بين إبراز قصة نجاح Queen بداية من انضمام ميركورى للفرقة عام 1970 حتى حفلهم التاريخىlive 8 عام 1985 مع التركيز على علاقة ميركورى بالفريق وما تخللها من لحظات متوترة، وبين الغوص فى الصراع الداخلى للشخصية الرئيسية للفيلم حين غرق فى بحر الشذوذ وأدمن الكحول والمخدرات، وأثر ذلك على عمله وعلاقته بالفريق من جانب وحبيبته من جانب آخر، لتتساءل بعد انتهائك من المشاهدة، هل هذا فيلم سيرة ذاتية عن فرقة Queen أم مغنيها الرئيس، لكننى أزعم أن الأخير موضوع أكثر إثارة، فتعمد مخرجه إهمال الشخصيات الأخرى رغم أهميتها.
قبل مشاهدتى للفيلم، سأعترف أننى لم أكن أعرف الكثير عن فريدى ميركورى الذى ولد فى زنجبار باسم فاروق بولسارا، وهاجر مع عائلته إلى إنجلترا فى سن 18 عامًا، أدى تراثه العرقى وبروز أسنانه إلى النبذ الاجتماعى، فهو روح ضائعة تبحث عن الهروب من عائلته حتى حانت له فرصة لقاء "روجر تايلور" و"بريان ماى" أثناء بحثهما عن مغنٍ جديد ، ومنحاه فرصة للخروج من قوقعته على خشبة المسرح قبل أن ينغمس فى رغباته دون رادع وينزلق فى حفرة مظلمة تؤدى فى نهاية المطاف إلى زواله ولكن ليس قبل أن يقدم أحد أعظم عروض الحفلات الموسيقية فى كل العصور ليسطر تاريخًا فى عالم موسيقى الروك.
Queen
لم تخرج تفسيرات هذا التشويش فى دراما الفيلم، عن الأزمات التى لاقاها فى رحلته إلى دور العرض إذ واجه العمل طريقًا صعبة إلى الشاشة، تعود إلى اشتراك نجوم ومخرجين فى البداية حتى غادروا المشروع فى خضم الإنتاج ليحل محلهم آخرون، علمًا بأن العمل على Bohemian Rhapsody بدأ منذ 10 سنوات تقريبًا، وبالطبع لم يكن رامى مالك على الساحة وقتها، فرُشح لدور فريدى ميركورى، الممثل البريطانى "ساشا بارون كوهين" قبل أن يعتذر ليرشح صناع العمل بعد ذلك الممثل البريطانى "بن وشو" ، كما استبدل المخرج بريان سينجر ليحل محله دكستر فليتشر، بعد صدام كبير مع رامى مالك اتهمه فيه بأنه مخرج غير احترافى.
مثل هذا الاضطراب وراء الكواليس غالبًا ما ينذر بالكوارث، لذلك فشل المنتج النهائى للفيلم فى تفادى ظهور علامات ذلك التاريخ المعقد، فكان التنقل من مشهد لآخر ومن مرحلة عمرية إلى أخرى غير موفق، لرغبة صناع العمل فى التركيز على أكثر من جانب فى حياة ميركورى، دون غوص عميق فى تطور الشخصية وإضفاء زخم درامى من خلال معاناته مع نشاطه الجنسى - مع الأخذ فى الاعتبار أن المثلية الجنسية فى السبعينيات لم يكن سلوكا مقبولا فى الغرب على عكس الآن - وحاجته إلى الاستقلالية الإبداعية، وحالة التيه بين صفات عدة بين الشخصية المستعصية، والضعيفة، والبائسة والباحثة عن نفسها.
فعلى سبيل المثال، حين يشرع مخرج العمل فى تجسيد صراع ميركورى الجنسى لا يسكن طويلاً حتى ينتقل إلى جانب آخر من حياته دون إعطاء كل جانب حقه الدرامى، وكان يمكن عرض السنوات الأخيرة من حياة بطلنا والغنية بالتفاصيل بشكل أفضل على الشاشة، بالإضافة إلى استثمار الوقت الذى أهدر ليعيد إلى الأذهان حفلات الفرقة ونقلها بشكل دقيق لاستيعاب لحظات أكثر دراماتيكية، لذا كان المشاهد يريد استكشافًا أعمق للفرقة بدلاً من باقة مميزة لأغانيهم الشهيرة.
ولم ينجُ Bohemian Rhapsody من الوقوع فى فخ "الكليشيهات"، إذ يدور حول فرقة تسعى جاهدة للوصول إلى القمة وتمر بلحظات صعود وهبوط وتضم مطربًا عبقريًا يساء فهمه ويعانى بسبب فنه، وهى قصة يمكنك توقعها مع المشاهد الأولى للفيلم فغاب عنصر المفاجأة عن الأحداث.
ومع وضع هذه الديباجة فى الاعتبار، سيكون على محبى "Queen" أن يغفروا لى قولى إن فيلم Bohemian Rhapsody نمطى ذات طابع حرفى تقليدى، لم يتجاوز ما يعرفه الجمهور بالفعل عن الفرقة الموسيقية الشهيرة وذلك على الرغم من أداء رامى مالك الرائع على خشبة المسرح، إذ يتحد التواجد المادى لمالك بشكل سلس مع صوت فريدى خاصة فى حفل Live Aid فى عام 1985 ، وهو الأداء الذى كان قد تم تسجيله فى التاريخ على أنه الأفضل على الإطلاق.