عند تقديم عمل فنى مبنى على سيرة ذاتية أو أحداث واقعية ومصحوبا بجملة "مستوحى عن قصة واقعية"، يكون صناع العمل أمام أمرين لا ثالث لهما، الأول محاولة تقديم الأحداث كما هى دون زيادة أو نقصان، والثانى أن يضع صانع الفيلم وجهة نظره الدرامية على الأحداث بما لا يخل بواقعها الزمنى والتاريخى، وبالطبع تبدو الصعوبة فى بناء عمل فنى قائم على أحداث وقعت بالفعل، فى وصول صناع الفيلم إلى التشابه الكبير الذى يقنع المتلقى بأنه جزء من الواقع.
وفى فيلم "Green Book 2018" الحاصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم سينمائى2019، نفكر فى طريقة المعالجة، لكن مع انتهاء مشاهدة الفيلم، ستزول كافة التساؤلات والأطروحات، فما يطرحه الفيلم بغض النظر عن كونه مستوحى من أحداث واقعية عن سيرة عازف البيانو العالمى الدكتور دون شيرلى، مقنعا فى حد ذاته. وفيلم "Green Book" عمل درامى اجتماعى أمريكى من إخراج بيتر فاريلى عن جولة حقيقية فى الجنوب الأمريكى فى ستينيات القرن الماضى، قام بها عازف البيانو دون شيرلى وحارسه تونى ليب، والفيلم سيناريو وحوار بريان هايز كورى، بيتر فاريلى، وبطولة فيجو مورتينسين بدور تونى ليب، ماهرشالا على بدور دون شيرلى، ليندا إدنا كاردلينى بدور دولوريس.
وتدور أحداث الفيلم حول سائق أمريكى من أصول إيطالية هو تونى ليب، ذو خلفية عنصرية تجاه الأشخاص سود البشرة، تضطره الظروف للعمل سائقا ومساعدا خاصا للدكتور دون شيرلى أحد أمهر عازفى البيانو فى عصره، وصاحب البشرة السمراء، حيث يصطحب "تونى"، "دون شيرلى" لمدة شهرين من أجل إقامة عدد من حفلات العزف فى عدد من الولايات جنوب الولايات المتحدة الأمريكية.
والفيلم استمد اسمه من الكتاب الأخضر للنيجر، ودوره الإرشاد إلى الفنادق الصغيرة، المطاعم ومحطات الوقود، لتتمكن الرحلة من فتح أعين كل رجل منهما على عالم الرجل الآخر، فضلًا عن توجيه بصيرتهما للعالم الذى يعيشان به. الفيلم يطرح قضية مهمة على المستوى الإنسانى والاجتماعى والسياسى أيضا، هى كيفية التعامل مع المواطنين الأمريكيين ذوى البشرة السمراء فى حقبة الستينيات؟ وهى الفترة نفسها التى شهدت أوج نشاط القس الأمريكى والمصلح الاجتماعى الشهير مارتن لوثر كينج من أجل المساواة الكاملة فى كافة الولايات الأمريكية بين المواطنين البيض والسود على حد سواء، وهو النشاط التى أودى بحياة "كينج" عام 1968، ومن قبله الرئيس جون كيندى عام 1963، بسبب القضية نفسها. الفيلم ليس الأول فى التعامل مع قضايا التعايش بين البيض والسود، حتى من منطلق التشابه والتناقض فى الأحداث، ولعله يشبه فى تناوله فيلم " The Bucket List" إنتاج عام 2007، ومن بطولة جاك نيكلسون ومورجان فريمان، فالأول رجل أعمال "أبيض" سلوكه فظ لا يتعاطف مع الآخرين، والآخر ميكانيكى "أسود" ورب أسرة عاطفى وحنون، تضطرهما الظروف للاشتراك فى غرفة واحدة، بعد إصابتهما بالسرطان، وبالرغم من اختلافهما، توجد الكثير من الأمور المشتركة بينهما، فكلاهما يعانى من مرضٍ ميئوس منه ولم يتبقَ لهما سوى بضعة أشهر للعيش، بخضوعهما معاً للعلاج الكيميائي، تتوطّد علاقة الصداقة بين "كارتر" و"إدوارد" ويبدآن الحديث حول الحياة والموت.
على المستوى الإنسانى يعالج فيلم (green book) قضية التعايش بين البشر بعيدا عن لونه أو دينه أو عرقه، البطلان محورا دراما الفيلم تونى ليب ودون شيرلى، يبدو من الوهلة الأولى مدى الاختلاف الكبير بينما الأول أمريكى أبيض من أصول إيطالية عنصرى نحو سُمر البشرة، شخص لا يكثرث كثيرا بالأمور يتعامل مع الدنيا بمبدأ "الفهلوة" أو التحايل كما جاءت على لسان بطل الفيلم فيجو مورتينسين، والذى لعب الدور ببراعة شديدة، وكان شكله وتكوينه الجسمانى وتعبيرات وجه، مناسبا تماما لدور الشخص المتحايل الذى يلعب دوره، مظهرا النزعة الإيطالية الشرقية الجافة، فى تعامله مع كثير من المواقف، "مورتينسين" أجاد التعامل بتعبيراته الجسدية والوجهية تماما كما أجاد التعامل مع السيوف ولعبة الحرب فى سلسلة أفلام " The lord of the rings" التى قدم فيها دور أرجون ابن آرثر، وكانت سببا فى شهرته. أما الآخر هو شخص أسمر يحمل أعباء الماضى، وانهزامات فئة تعانى الاضطهاد والعنصرية على مدى تاريخها، وأحلامها فى آن واحد، يبدو مثاليا إلى حد كبير ومنظما ومنضبطا إلى حد كبير أيضا، متأنق طيلة الوقت ويتعامل مع العالم بحذر، لا يسمع موسيقى الجاز ولم يأكل فى حياته ولو قطعة من دجاج كنتاكى، الصورة النمطية عن السود كما يتصورها "تونى"، لكن ذلك الانضباط يحمل خلفه أمور أكثر تعقيدا عن حياة "دون شيرلى" الشخص المنزوى عن عائلته، الذى فشل فى حياته الزوجية، مثلى الجنس والأخيرة لم يقف عندها الفيلم كثيرا، إلا فى مشهد واحد، ربما لتوضيح جزء خفى من شخصية العازف الشهير، شخصا لا يتقبله أحد بالشكل الكافى كما عبر هو خلال الأحداث، أهله يرفضونه لأنه ليس أسود بالشكل الكافى، وزوجته رفضته لأنه ليس رجلا بالشكل الكافى، والمجتمع الأبيض يرفضه بالطبع لأنه ليس أبيض مثلهم، كل هذه التناقضات الشخصية قدمها وببراعة أيضا الممثل الأمريكى ماهرشالا على، وربما ساعده كونه مسلما أسود يعيش فى الولايات المتحدة، ويشعر بحياة الأقليات، فى تقديم صورة صادقة عن معاناة العازف الأمريكى دون شيرلى.
أبطال القصة أثر كل واحد منهم فى الآخر، شيرلى جعل تونى، ينظر للأشخاص ذوى البشرة السمراء نظرة أخرى، بعدما رأى فيه براعة التعبير والإحساس فى عزفه وفى عاطفته بعدما ساعده فى كتابة الرسائل الغرامية إلى زوجته، وأيضا فى ضبط النفس فى التعامل مع الأمور، كما كان لتونى على شيرلى أيضا تأثير بالغ، بعدما أنقذه فى أكثر من مناسبة، كما أنه جعله يرى الحياة من منطلق أكثر بساطة وحب وانطلاق، دون الاكتراث لروتينات الحياة المتعبة، وجعله أيضا أكثر شجاعة.
الفيلم رغم كونه درامى اجتماعى، إلا أن خلفية مخرج الفيلم بيتر فاريلى، صاحب التاريخ الطويل فى تقديم الأفلام الكوميدية، مثل "Dumb and Dumber To" و"Hall Pass" جعلت العمل لا يخلو من المشاهد والحوارات الكوميدية، فى محاولة ربما من مخرج العمل فى إضفاء جوء من المرح على الأجواء الإنسانية المتناقضة والمعقدة التى تدور حولها الأحداث.
أما الرؤية الإخراحية، فاستطاعت أن تجسد بعبقرية العديد من معانى معبرة عن عوالم دارت حولها الأحداث، ويظهر ذلك فى أحد المشاهد عندما تعطلت سيارة "شيرلى" وخرج "ليب"، بجانب أحد المزارع التى يعمل بها مواطنون سود، وفى اللحظة التى يخرج فيها من السيارة ليرى سبب العطل، وقيامه بفتح الباب لـ"شيرلى" يفاجأ المزارعون بمواطن أبيض يخدم مواطنا أسمر البشرة، فى مشهد ربما يرونه للمرة الأولى فى حياتهم، الكاميرا اصطادت بحرفية ملامحهم فى تلك اللحظة، وتوقفت أمام شخوصهم المستغربة، مما كشف عبقرية هذا المشهد واختياره على "البوستر الرئيسى" للفيلم.
الموسيقى التصويرية للفيلم، جاءت فى معظمها معتمدة على مقطوعات مؤلفة مسبقًا من جانب دون شيرلى، وذلك بطبيعة الحال كون الفيلم عن سيرته، أو من موسيقى وأغانى لمؤلفين ومغنين آخرين، بينما قدم كريس باورز نحو 19 دقيقة فقط من تأليفه، معتمدا على آلات وترية من عائلة الكمان، فى النهاية جاءت المقطوعات الفنية التى يقدمها شيرلى معبرة عن انفعالاته الداخلية لم يمر به من أحداث وتعامل مع الآخرين، فيما اعتمد "باورز" على تقديم مقطوعات موسيقية هادئة شجنية تحمل أحزان الموسيقار شيرلى، والمواقف الصعبة التى يتعرض لها أبطال العمل.
يبين الفيلم كيفية احتياج كل شخص منا للآخر لتكتمل الحياة، وكيف يؤثر كل إنسان على الآخر بطريقته بغض النظر عن طبيعته ودينه ولونه وعرقه، ليرسم ملحمة إنسانية فى التعايش، بين البيض والسود، من خلال أحداث تجعل الإنسان يخرج من منظوره الضيق للأمور لمنظور أكبر رحابة للحياة، وجعلنا نبصر أمورا إنسانية ربما تغيب عن أعيننا لمجرد الاختلاف الظاهرى فقط، وتجعلنا ننظر للحياة بمنظور إنسانى كما ينبغى أن يكون.