كانت وسائل الإعلام المصرية والعربية تكتب مقتطفات من سيرة حياة الفنان محمد رشدى، يوم 3 مايو - مثل هذا اليوم 2005 - فى سياق متابعتها لخبر رحيله، وكانت السيرة كلها بحوزتى من خلال اقترابى منه فى سنواته الأخيرة، وتسجيلى لمذكراته معه.. «راجع - ذات يوم 2 مايو 2019».
انتقل رشدى وهو يروى لى مراحل تكوينه الأولى، وتأثره بأمه وأبيه فى دسوق بمحافظة كفر الشيخ، إلى الحديث عن مولد سيدنا إبراهيم الدسوقى، كان يتذكر كعادته تفاصيل التفاصيل بذاكرة بصرية مدهشة: «المولد كان بالنسبة لى حاجة خاصة جدا، كنت أقضى أيامه كلها أتفرج على ألعاب السيرك والرماية والسحر، يخطف عينى حياة المجاذيب والصوفيين، أسمع كلمة من هنا وتعليق من هناك، لا أنسى «مصطفى عابدين»، وكان نجم ليالى المولد فى الغناء، كان سرادقه يتسع لآلاف..أهميته عند جمهوره لم تكن تقل عن أهمية محمد عبدالوهاب».
جاءت مرحلته الثانية، مرحلة ليلى مراد، يتذكرها: «بكيت حين استمعت إليها لأول مرة وهى بتغنى فى الإذاعة، لا أتذكر الموعد بدقة، لكن أفتكر إنى سمعت صوتها فى جهاز الراديو الوحيد فى دسوق، نقلتنى لعالم تانى، سمعتها فى أغنية: «ياما أرق النسيم/ لما يداعب خيالى/ خلانى وحدى أغيب/ وأسبح فى وادى الأمانى»، لما سمعتها، قلت: «بس هو ده طريقى، حفظت كل أغانيها وغنيتها فى كل مكان، فى المدرسة، فى الشارع، اشتهرت فى دسوق بهذه الطريقة، وللتاريخ أقول: صوتى ظهر بأغانى ليلى مراد، هى اللى فتحت عينى على غناء مختلف عن غناء مولد الدسوقى، عن مواويل مصطفى عابدين، قمبر، حمامة العطار، محمد الأقرع».
استمر «رشدى» على هذا الحال حتى السنوات الأخيرة من أربعينيات القرن الماضى، وخلالها كانت هناك انتخابات لمجلس النواب، وترشح «فريد زعلوك» عن «الوفد» فى دسوق.. كان «زعلوك» أحد قيادات انتفاضة الطلبة فى جامعة فؤاد الأول ضد الاحتلال الإنجليزى عام 1935.. يتذكر: «كونت فريق دعاية لفريد زعلوك من «منجد» و«حلاق».. كان جهاز دعاية ثورى غريب الشكل، ناس تكتب أشعارا وأزجالا يلقيها المنجد أو الحلاق فى السرادقات، ثم فكرنا فى ابتكار أسلوب جديد للدعاية، فجاء دورى فى تلحين مقاطع شعرية تتحدث عن «فريد» منها: «صوت الضمير لما بيهتف/ تسمع له الناس/ ما دام يكون حب الوطن والحكمة أساس/ والاختيار قوة إحساس/ ومين غير فريد/ مجاهد عنده حماس».
أعطى «زعلوك» لرشدى وعدا بمساعدته فى الالتحاق بمعهد الموسيقى بالقاهرة فى حال نجاحه فى الانتخابات، وهو ما حدث بالفعل، يتذكر: «نجح زعلوك، وبعدها بفترة استدعانى إلى القاهرة، فودعت أهلى فى دسوق، نزلت إلى محطة طنطا انتظر القطار، وأثناء الانتظار وجدت شابا يحمل عودا، كان أنيقا، وجهه قمحى يميل إلى سمرة المصريين، فى عينيه مسحة حزن وهدوء عجيب، مظهره على بعضه يشدك من أول نظرة،ناديت عليه وتعارفنا.. كان عبدالحليم شبانة الذى سيكون «عبدالحليم حافظ»، جلسنا فى القطار، اشترينا صميت وترمس ودقة أكلنا بشهية ومحبة ودفء».
توزع يوم محمد رشدى فى القاهرة بين الدراسة فى معهد الموسيقى كوقت دائم، والتردد على «زعلوك» أحيانا، والذهاب إلى بلدياته «أحمد المنشاوى»، مساعد الموسيقار محمد عبدالوهاب فى مكتبه.. يتذكر: «تعودت على الذهاب إلى المنشاوى يوميا لمشاهدة الفنان الكبير ومراقبة كل تصرفاته، كنت موجودا على أننى مساعد للمنشاوى، أول شىء عرفته عن عبدالوهاب هو عشقه لـ«بيتهوفن»، شاهدت فى مكتبه صورة كبيرة معلقة فى زاوية على الحائط تقع عينه عليها مباشرة، وتقريبا معظم الوقت يستمع إلى أسطوانته.. لاحظت شهيته المفتوحة للأكل.. ينادى: «يا منشاوى»، أجرى أنا إليه، فيأمرنى: «خد هات الأكل ده»، يطلب أنواعا تكفى لخمسة أفراد، ويلتهمها هو وحده بسرعة عجيبة».
استمر رشدى على هذا الحال حتى قرر عبدالوهاب طرده، بسبب أغنية له غناها فى الأفراح، حفظها من جلوسه أمام مكتبه وهو يلحنها على العود فى مكتبه، بينما لم يكن عبدالوهاب قدمها بعد، فضجت الصحافة، واتهمت عبدالوهاب بالسرقة.
مرت الأيام برشدى فى القاهرة بحلوها ومرها.. انتهى من معهد الموسيقى، وتقدم إلى الإذاعة ونجح، وأصبح بذلك مطربا معتمدا، وحسب مجلة الإذاعة المصرية، فإنه يوم 29 مايو 1951 كان هو الأول له فى الإذاعة بأغنية «سامع وساكت ليه»، من ألحانه، وكلمات: «حسين طنطاوى، ثم فى يوم 2 أغسطس 1951 قدم أغنية «يامين يطمنى»، من ألحانه، وكلمات «كامل أبوشبل»، واصل رشدى أغنياته، حتى جاءت قنبلته «قولوا لمأذون البلد» من تلحينه وكلمات «محمد فتحى مهدى»، وهى الأغنية التى ترتبط عنده بذكرى يرويها فى سياق نقده الذاتى لمسيرته فى مرحلته الغنائية الأولى.. يقول: «فى ليلة ثورة 23 يوليو 1952 كان عندى تسجيل فى الإذاعة، وقبل التسجيل فوجئت بدبابات تحاصر مبنى الإذاعة فى شارع شريفين، وجاء ضابط، ليقول لنا: «إحنا فى ثورة»، انزعجت فقلت له: «أرجوك أهم حاجة عندى تسجيل الأغنية»، يضيف: «لم أكن أعرف يعنى إيه ثورة، كل همى كان تسجيلى للأغنية عشان 17 جنيها تمنها.. سألنى الضابط وعلى ما أذكر كان جمال حماد: «مش أنت بتاع مأذون البلد»؟..قلت: «أيوه».. قال لى: «خلاص، غنى، مأذون البلد، علشان إحنا فى أفراح».
بعد الثورة سيبقى رشدى لسنوات ضائعا حتى جاء إليه الأبنودى، وبليغ فأحدثوا ثورتهم، فكيف حدث ذلك؟