أساتذة نادى الموسيقى حاكمونى بمخالفة قواعد التلحين وفصلونى.. المطرب الآن أشبه بالمونولوجست والفن أصبح فن تجار الشنطة
- تطوير الموسيقى المحلية الطريق الوحيد للعالمية
- الموسيقى الغربية تخاطب العقل والشرقية تخاطب الغرائز
«الموهبة أساس أى عمل فنى، ولكن إذا لم تحصل الموهبة على ثقافة علمية أكاديمية، فيظل إنتاج هذه الموهبة فنًا محليًا، لا يتعدى أسوار بلده».. هكذا قال الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، فى توصيف دقيق له عن الموهبة، وكيفية صناعة نجم عالمى، مثلما يتمنى كل نجوم الجيل الحالى من المطربين، أو كما يسوق البعض عن نجوميته العالمية.
موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب «1902 – 1991»، واحد من هؤلاء الذين وصلوا للعالمية، وتجاوز إنتاجه الفنى حدود المحلية، بعدما استطاع أن يصل بألحانه مع عظماء الغناء والطرب المصرى إلى قلب القارة العجوز، ويصنع اسمًا جعله على القمة بين أقرانه من الملحنين ومؤلفى الموسيقى فى مصر والعالم العربى.
كان عبد الوهاب بالنسبة لجيله، هو العلامة الذى طور شكل الموسيقى العربية، وجعلها تخرج إلى خارج الحدود، وتمنت الأجيال المتعاقبة أن يكون معها عبد الوهاب، تنهل من علمه، وتستزيد من موسيقاه البديعة، ومن فنه الجميل، والاستفادة من نصائح صناع الأجيال، لكن ربما ترك عبد الوهاب، ما يوضح فلسفته الفنية، ويكشف آراءه عن الفن المصرى فى شكله الحديث.
فى كتاب «رحلتى: الأوراق الخاصة جدا» الصادر عن دار الشروق عام 2007، من تقديم الشاعر الكبير فاروق جويدة، يخوض عبد الوهاب، رحلات وعوالم لم يكن يعلمها الكثير عن الموسيقار العظيم، وتبين لنا عبر 160 ورقة من القطع المتوسطة «حجم الكتاب»، رؤى وتفكير موسيقار الأجيال.
حاول عبد الوهاب إجراء تغيير جذرى فى الأغنية العربية، فكان أول ما حاول تقديمه، فك سجن الجملة اللحنية من قيود الإيقاع الواضح الذى غالبا ما يحرك فى المستمع الحس المادى أكثر من الوجدان، وكان أيضًا أول من خالف قاعدة مهمة من قواعد التلحين الشرقى التى تعلمها من الأساتذة القدامى، والتى تقول: إن الملحن إذا ما لحن قصيدة أو توشيحا أو دورا أو أغنية أو طقطوقة وابتداء من نغمة ومن مقام معين عليه أن ينتهى بنفس النغمة وعلى نفس المقام.
وقد كسر هذه القاعدة فى «جارة الوادى» فقد بدأ من نغمة «البياتى» على مقام «الدوكا»، وانتهى بها بمقام «البياتى أيضًا، لكن على مقام العشيران، أى ابتدأت ببياتى على «الرى» وانتهيت إلى بياتى على «اللا» وهذه مخالفة صريحة، وثار أساتذة نادى الموسيقى فى ذلك الوقت، وحاكموا عبدالوهاب فى جلسة ضخمة، شارك فيها أساتذة أجلاء، لم يسمِ أحدا منهم، وقال لهم: «إن النغمة تشبه حديقة جميلة يتجول فيها الملحن فى لحنه ويكتشف فيها مواقع جميلة إذا ما أراد فى مشواره داخل الحديقة أن يرتاح عند موقع جميل وينتهى من مشواره فما هو المانع؟»، فلم يوافقوا الرأى ولكنهم لم يتخذوا أى إجراء، وذلك بسبب تقديم النادى له على كونه طالبا، وبالتالى يحصل على إعانة بسبب ذلك، وعندما انفصل جزء من النادى كمعهد للموسيقى العربية وأصبح تابعا للحكومة، ابتدأ النادى يستغنى عن الحفلات وزاد تحطيمه للوثنية، فلم يطيقوا على ذلك صبرا حتى اجتمعوا وقرروا فصله، والوحيد الذى رفض فصله كان أحمد الألفى عطية فطرده من المجلس.
«أستطيع أن أسمى الفن الآن، فن تجار الشنطة، فالفن اليوم يشبه أسلوب تجار الشنطة، فهناك نفر من اللصوص يسرقون الفن من الإذاعات والتسجيلات الأصلية على كاسيتات ثم يضعونها فى شنط ثم يذهبون بها إلى بائعى الأرصفة وربما كان ذلك هو الجزاء الطبيعى لما وصل إليه الفن من انحدار».. هكذا فسر عبد الوهاب رؤيته حول الفن فى الأوقات الأخيرة.
عبد الوهاب، يرى أن فن المونولوج الحقيقى اندثر، مثلما كان يقدمه إسماعيل ياسين وقبله حسين المليجى وثريا حلمى، حيث كان يعتمد على رشاقته وخفة ظله.
أما الآن فالمطربون والمطربات يغنون ألحانا كألحان المونولوج، من حيث الأسلوب اللحنى، جمل بسيطة أى إنسان يمكن أن يؤديها، لأنها لا تحتاج إلى قدرة صوتية، أى أن المطربين الآن هم مونولوجست فعلا، لذا يقترح موسيقار الأجيال أن يسمى المطرب الآن «مطرجست» أو «مطربجست».
زمن الأصوات الجميلة انتهى، كما يرى عبد الوهاب، وذلك أن الأصوات فى الماضى مثل أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، تجذب الجمهور بأدائها وشخصيتها وشغلتها عن محاسبتهم عن العمل الموسيقى فى حد ذاته، وكان الجمهور لا يهمه إلا أن يسمع أداء أم كلثوم ويستمتع بشخصيتها، لكن الأغنية الآن تتجه إلى العمل الموسيقى المتكامل، حيث يكون فيه للمطرب دور ولكن ليس الدور الأول أو الوحيد، أن سيادة الصوت ستخف عن ذى قبل ويحل محله عهد العمل الموسيقى.
غياب أم كلثوم كان سببا فى هبوط مستوى الألحان أيضًا من وجهة نظر موسيقار الأجيال، خصوصا بين الناشئين من الملحنين وملحنى الدرجة الثانية، لأن أم كلثوم كانت أملا لهؤلاء جميعا، كانت هدفا يريدون الوصول إليها، فأم كلثوم غنت للسنباطى وهو ناشئ، وغنت لبليغ وهو ناشئ، وغنت لسيد مكاوى وهذا كل أمله.
فى طلب الرئيس السادات أن يجىء إليه بالموسيقار محمد عبد الوهاب، وعرض الرئيس فكرته عليه وهى إعادة النظر فى نشيد «بلادى، بلادى» ليكون نشيدا وطنيا جديدا لمصر، وبحسب ما يوضح عبد الوهاب أنه وجد مشكلة، لكنها ليست فى التوزيع كما كان يظن البعض، وعمل عبد الوهاب على إبطاء النشيد بطئا شديدا من أجل الوصول للنغمة المناسبة، لكن ثغرات عدة ظهرت أمامه، أو ما تسمى بـ«السكتات»، وحينها فكر أن النشيد ستعزفه فرقة عسكرية على آلات نحاس وخشب، فجلس مع «مختار السيد» وهو عازف ترامبيت أصلا فى الفرقة العسكرية، وجعله بحكم معاشرته لهذه الآلات ومن المتخصصين فى الكتابة لفصائل معينة أن يكتب نوتة النشيد، كما جعل الموسيقار الكبير الآلات النحاس تدخل بالنشيد، وتستمر حتى أول كوبليه، فيبدأ الحوار بأن يعزف الخشب الكوبليه، وقبل أن ينتهى الكوبليه يدخل النحاس ليكمله مع الخشب ثم يستمر النحاس فى إعادة الكوبليه الأول، أى يعيد النحاس ما بدأ به.
قدم الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، ما يشبه بالروشتة التى تصل بالفنان إلى العالمية، فوفقًا لما ذكره: «من أجل أن تجعل موسيقاك عالمية، أى أن تجد لها جمهورا فى أوروبا يجب أن تتمسك أولا بمحليتك، أى أن تذهب وأنت مصرى الموسيقى، فمثلا إذا ذهبت إلى ألمانيا ومعك موسيقى أوروبية فلن يلتفت إليك أحد، أما إذا ذهبت بموسيقى مصرية متطورة فسوف تجد لها صدى جميلا هناك، فكن محليا من أجل أن عالميا»، وفى أوروبا عندما تظهر أغنية بالإنجليزية مثلا، تكون موسيقاها وتركيبها وإطارها وجمالها ذات قيمة يحذفون الكلام ويوضع عليه كلام آخر بأى لغة، أو تسمع الموسيقى من غير كلام، ما معنى هذا؟ أن الموسيقى هى الأساس.
كما روى موسيقار الأجيال موقفا طريفا، صادفه، أثناء أحد الاجتماعات فى جريدة «روز اليوسف»، حيث كانت بيت اللقاءات الأدبية والفنية، فإذا بصديق كان مشهورا بمهارته فى تقليد الشخصيات الكبيرة المعروفة فى مصر، مثل حيدر باشا وحفنى محمود والعقاد وطلعت حرب، وغيرهم، ثم فاجأهم الصديق، باستدعاء ثلاثة عازفين للغناء، وأراد أن يغنى وجاملوه بالقبول والاستحسان، وغنى لكن غناءه كان قبيحا، وبعد أن انتهى نظر إليه العقاد، وقال له: يا أستاذ!، وقال للعقاد: نعم، وانتظر الصديق الثناء على صوته من العقاد، لكن العقاد قال له: يا أستاذ ما دمت بارعا بهذه الدرجة فى التقليد، لماذا لا تختار مطربا جميل الصوت وتقلده!.
يقول عبد الوهاب: عندما أسمع الموسيقى الغربية فأنا أمام عمل وبناء موسيقى هندسى معمارى، فالجملة التى اختارها المؤلف لعمله الموسيقى أتابعها، كيف لعب بها، كيف فكها، كيف احتفظ بملامح الجملة فى كل العمل الذى أسمعه، كيف يفاجئنى، كيف يرتفع بى كيف يهبط، أستمع وأنا مشدود ومأخوذ، الموسيقى الكلاسيكية تبعث على الاسترخاء اللطيف، وكثيرا ما ينسى المستمع أنه يستمع إلى الموسيقى، أما الشرقى بطبعه «لذائذى» فموسيقاه تخاطب اللذة فيه، واللذة بمجرد أن تذوقها مرة أو مرتين تموت، وأما الغربى فموسيقاه تخاطب العقل، موسيقى منطقية والعقل لا تموت متعته أبدا.