البعض ينصبون من أنفسه آلهة.. يقسمون الناس بين الجنة والنار..يمنحون صكوك الغفران ويحكمون على البعض بالكفر أو العصيان، يفتشون فى النوايا ويحكمون بالمظاهر، يزكون أنفسهم على الله، ويرون أنهم هم الملائكة وغيرهم شياطين، هؤلاء الذين يلونون الحياة بالسواد ويحاولون إغلاق أبواب الرحمة أمام العباد، فينتقدون حتى أفعال الخير إذا صدرت من البعض، ويقسمون الناس بين الجنة والنار طبقا لما يرتدون من ملابس أو يمتهنون من أعمال، ولا يدركون أن حسابات الله تختلف عن حساباتهم وأن رحمته أوسع وأن أبواب الخير مفتوحة لغيرهم، يدخلها عباد الله بالعمل الصالح الذى قد تعجز أبصارهم عن إدراكه ولكن عين الله تراه.
هؤلاء الذين يرون الفن حراما ويحكمون على الفنانين بالفسق والعصيان وأحيانا الكفر، وتزداد هذه الأحكام قسوة مع الراقصات اللاتى اعتاد الكثيرون أن يرون فيهن الشر ولايقبلن فكرة أن بعضهن قد يكن أفضل عند الله، وأنها قد تأت الله بفعل وعمل صالح يفتح لها أبواب الجنة، وأن من ترقص فى العلن قد يكون بينها وبين الله الكثير من أعمال الخير فى الخفاء، وأنهن قد يكن أفضل من كثيرين يتظاهرن بالتدين والقرب من الله وهم فى الحقيقة أبعد الناس عنه.
لا يدرك هؤلاء أن الجنة يدخلها من أتى الله بقلب سليم وأن أبواب الرحمة والمغفرة مفتوحة للجميع بلا استثناء، وأن الإنسان قد يتق النار بشق تمرة، وأن عشم الإنسان وثقته فى رحمة الله قد تكون طريقه للجنة، وان العلاقة بين العبد وربه لا يستطيع أن يحكم عليها البشر.
فى هذا الملف نعرض الكثير من مواقف راقصات رقصن فى العلن وعرفن الله وتقربن له فى الخفاء دون أن يتاجرن بهذه العلاقة الخاصة ودون أن يلتفتن لهجوم بشر محدودى الرؤية والرحمة.
من بين هؤلاء الراقصات التى عرفت منذ بداياتها بمواقفها وجرأتها وأعمالها الطيبة الفنانة الراحلة تحية كاريوكا التى كانت فى أوقات كثيرة على استعداد للتضحية بحياتها بسبب مواقفها، حيث ساعدت الفدائيين على مقاومة الاحتلال الانجليزى وهربت لهم السلاح فى سيارتها إلى الاسماعيلية قبل قيام ثورة يوليو 1952.
وبعد ثورة 1952 شاركت كاريوكا فى قطار الرحمة وتبرعت بمجوهراتها، وجمعت التبرعات للجيش بعد نكسة يونيو 1967، وكان لها دور بارز فى حرب أكتوبر سواء فى جمع التبرعات أو مع الهلال الأحمر وفى مستشفى القصر العينى، حيث أقامت لشهور بعنبر 21 لخدمة الجرحى والمصابين.
وخلال حياتها الفنية كان لها العديد من المواقف التى ساندت فيها الضعفاء دون أن تعلن عن هذه المواقف أو تتاجر بها ولكن حكى عنها المقربون منها، ففى أثناء تصوير أحد المسلسلات فى دبى عرفت كاريوكا أن المنتج لم يدفع أجور الكومبارس، فقررت الامتناع عن التصوير حتى يتم دفع أجورهم، وأكد المخرج جميل المغازى أن كاريوكا عندما عرفت أن فرنسا رفضت استقبال الشاعر بيرم التونسى بعد نفيه، وأنه عمل شيالا فى ميناء مرسيليا جمعت تبرعات سافرت بنفسها لتسلميها له وناضلت مع الفنانين حتى أعادته إلى مصر.
وحكى الماكيير محمد عشوب فى الكثير من لقاءاته عن مواقف تحية كاريوكا، مشيرا إلى أنها كانت شديدة العطف على العمال بالاستديو وعلى الأطفال الذين يبيعون الجرائد أو أطفال الشوارع، وكانت دائما تصطحبهم لشراء الملابس الثقيلة فى الشتاء وتوزع عليهم الطعام، مشيرا إلى أنها كانت خلال التصوير تجمع تبرعات من أبطال العمل والمنتج والمخرج، وتضعها فى أظرف وتوزعها على العمال.
كما تحدث عشوب عن علاقة تحية كاريوكا بالشيخ الشعراوى، مشيرا إلى أنها كانت تعتبره أباها الروحى، وأنه تدخل لحل مشكلتها مع طليقها فايز حلاوة الذى طردها بملابسها من شقتها واستولى على كل ما تملك، مشيرا إلى أن شقيقه المحامى مصطفى عشوب تولى القضية التى رفعتها تحية لاسترداد شقتها، ولكنه فوجئ باتصال منها تطلب منه عدم حضور الجلسات، فاتصل هو وشقيقه بالشيخ الشعراوى لإخباره، وعندما تحدث معها إمام الدعاة وسألها عن السبب قالت له تحية: «الراجل متجوز ومعاه مراته وبنت هيروح بيهم فين، وأنا كبرت والشقة كبيرة عليا ومبسوطة فى الشقة اللى أنا فيها»، فلمعت عين الشيخ الشعراوى وبكى قائلا: «بدأت أغير منك يا تحية، لإن ربنا بنى لك قصور فى الجنة".
وكانت الفنانة تحية كاريوكا تلجأ للشيخ الشعراوى فى أواخر حياتها تستشيره وتسأله فى أمور الدين، بعدما قابلته صدفة أثناء أداء العمرة.
وتحدثت ابنة شقيقتها الفنانة رجاء الجداوى عن دور خالتها كاريوكا فى حياتها فى أكثر من لقاء قائلة: «علمتنى أشياء كثيرة أهمها الصدق وقالتلى الكذب أول الموبقات الكذبة بتجر كذبة، وعلمتنى عزة النفس والكرامة فقالت: لما تقعدى فى القصر خللى راسك براسهم ولما تقعدى على طبلية خليكى أقل منهم وما تحكميش على حد إلا لما تحطى نفسك مكانه.
وقضت تحية كاريوكا آخر 26 عاما من حياتها متفرغة للعبادة وقراءة القرآن، والذهاب للحج والعمرة استعدادا لمشوارها الأخير، واستأجرت شقة صغيرة لتعيش فيها، ورغم مواردها الضعيفة كانت حريصة على إطعام الفقراء، حتى أنها كانت تقف أمام البيت لتوزع الطعام على العمال، وإذا جاءتها أى أموال كانت تذهب إلى السيد البدوى أو السيدة نفيسة لتطعم المساكين، وكانت تقول دائما :"كل معلقة تدخل جوف إنسان ربنا بيرزقنى عليها".
كان يمكن ألا يكون معها سوى 5 جنيهات، وإذا وجدت طالبا لا يستطيع دفع مصروفات المدرسة تعطيه كل ما معها وتقترض من البواب حتى يأتيها أى مبلغ.
وقبل وفاتها بعامين وجدت تحية كاريوكا على باب شقتها طفلة رضيعة، فأخذتها واعتنت بها واتصلت بالشيخ الشعراوى وأخبرته بأنها تريد أن تربيها فقال لها: "اكفليها وسميها عطية الله، وستكون مفتاحك للجنة".
وكانت كاريوكا تعشق هذه الطفلة وكانت مصدر سعادة لها، وبعد دخولها الرعاية المركزة، طلبت ورقة وكتبت اسم فيفى عبده، وأوصت بأن تتولى رعاية الطفلة بعد وفاتها.