منذ الإعلان في العام الماضي عن البدء في إنتاج مسلسل جديد مستوحى من حكايات "ألف ليلة وليلة "وأنا على شوق لمشاهدته، والتفاؤل يسبقني.
أما أسباب الشوق فأهمها نسوتالجي خالص –إن جاز التعبير- له علاقة بانتمائي لذلك الجيل الذي كانت فيه "ألف ليلة وليلة" جزءا لا يتجزأ من شهر رمضان، سواء بمسلسلها الإذاعي الشهير الذي كتبه الشاعر الكبير طاهر أبو فاشا وصوت الراحلة زوزو نبيل مازال يرن في أذنيّ وهي تخرج الحكاية من رحم الأخرى، ثم بتحوّل ذلك المسلسل الإذاعي إلى نسخة تليفزيونية كانت مقرونة بفوازير رمضان بطولة شريهان وقام بالمعالجة التليفزيونية الشاعر والسيناريست الكبير عبد السلام أمين والإخراج للعبقري فهمي عبد الحميد، وفيما بين نسختي الإذاعة والتليفزيون كانت هناك عدة محاولات نجح بعضها ولم يصادف بعضها النجاح، وأهمها نسخة المؤلف الكبير أحمد بهجت والمخرج عبد العزيز السكري والتي قام ببطولتها كل من نجلاء فتحي وحسين فهمي وحققت نجاحا كبيرا.
وأما أسباب التفاؤل فمتعددة، أهمها تصدي أكبر شركات الإنتاج في مصر لإنتاج العمل وهي الشركة المتحدة - ميديا هب – سعدي - جوهر، وشركة أروما – تامر مرتضى، ولم تبخل الشركات في الإنفاق على العمل بما يضمن أن يخرج بالشكل الذي يستحقه ويتناسب مع أسماء كل العاملين فيه.
وثانيا أن الإخراج يقوم به واحد من أهم مخرجي الدراما المصرية في السنوات الأخيرة وهو إسلام خيري، صاحب الخبرة الكبيرة في إخراج المسلسلات التي تعتمد على الخدع، منذ عمله الأول "الكبير قوي" الجزء الأول، مرورا ب "الكابوس" و"وعد إبليسم" و"الشركة الألمانية لمكافحة الخوارق" و"عزمي وأشجان" وأخيرا "جت سليمة" العام الماضي والذي يحمل الكثير من أجواء "ألف ليلة وليلة".
ويتمثل ثالث الأسباب في أن التأليف لأديب وسيناريست وكاتب مسرحي متميز هو أنور عبد المغيث، وأخيرا فإن فريق التمثيل على القدر نفسه من التميز، وعلى رأسه النجم ياسر جلال مع عدد كبير من النجمات والنجوم مثل نور وياسمين رئيس ووفاء عامر وعبد العزيز مخيون وأحمد بدير وياسر الطوبجي ووليد فواز وأحمد فتحي ومحمود البزاوي وأيتن عامر ومحمد التاجي ورشوان توفيق ومحمد علي رزق وعابد عناني وجيهان الشماشرجي.. وغيرهم.
أما آخر أسباب التفاؤل فكان شخصيا تماما بأن أتاحت لي الظروف الاطلاع على مشاهد متفرقة من العمل أثناء تصويره ورأيت كم الجهد والتميز والإبداع الذي يتم تنفيذ العمل به فزاد تفاؤلي وشوقي معا.
والآن وبعد عرض 4 حلقات من المسلسل أقول مطمئنا إن شوقي لم يخب، وتفاؤلي كان في محله، فجميع عناصر العمل في أحسن أحوالها، بداية من التأليف الذي لم يركن إلى سحر الليالي وحده بل قام أنور عبد المغيث بصياغة قصة جودر ابن عمر المصري على طريقته الخاصة، مضيفا إليها الكثير من الأحداث والشخصيات والخطوط الدرامية، غير أن القصة نفسها غير مستهلكة ولا أتذكر أنه تم تقديمها من قبل في أي من المعالجات العديدة لألف ليلة وليلة. فجاء النص ممتعا وثريا وفيه من الأدب والحكمة والفلسفة بقدر ما فيه من التمكن من التقنية.
أما ديكورات العمل فتم بناؤها على أفخم ما يكون، وربما سيتفاجأ كثيرون بمعرفة أن كل الديكورات مبنية كالقصر وقاعة الحكم والحارة وبيوتها ومقر الشمعيين وغيرها، وهو مجهود من المشرف الفني ومصمم الديكور أحمد فايز وفريقه احتاج شهورا لتنفيذ رؤية المؤلف، وبما يتناسب مع الصورة الذهنية لفخامة قصر شهريار في الليالي الأصلية.
والأمر نفسه ينسحب على الأزياء التي صممتها منى التونسي لتناسب أجواء العمل المختلفة من حيث الشخصيات وتنوعها واختلاف الطبقات والمجتمعات بل والأجناس التي تنتمي إليها.
وكل ذلك لم يكن ليظهر على الشاشة بهذا الجمال لولا براعة مدير التصوير تيمور تيمور، الذي تألق سواء في المشاهد الداخلية أو في التصوير الخارجي الذي امتد من حدائق القناطر الممتدة إلى صحراء الفيوم إلى جبال المغرب وكهوفها.
وبالقدر نفسه من الجمال والفخامة جاءت موسيقى التتر لعزيز الشافعي، والموسيقى التصويرية لشادي مؤنس الذي دمج ببراعة موسيقاه الخاصة التي ألّفها للمسلسل من وحي أحداثه التي تتنقل ما بين كل التصنيفات الدرامية من الصراع والتشويق إلى الرومانسية، كما تتنقل من أجواء المحروسة العامرة إلى الجبال والصحراء وعوالم الجن، ودمج كل ذلك مع أجواء الليالي الموسيقية التي لطالما ارتبطت في أذهان الناس بمقطوعة شهرزاد الشهيرة للموسيقار الروسي كورساكوف التي وضعها في القرن التاسع عشر، فجاءت التوليفة على قدر كبير من الجمال.
أما الخدع والمؤثرات البصرية وأعمال الجرافيكس التي قامت بها شركة أروما فكانت بطلا حقيقيا من أبطال العمل، ولولا أن الشركة لم تبخل عليها بكل ما يتطلبه الأمر من تكاليف ومجهود ووقت لما خرج المسلسل أبدا بهذا الشكل المبهر.
ربما تكون هذه المرة الأولى التي أشاهد فيها عملا من هذه النوعية دون أن أشاهد أي مبالغة في الأداء التمثيلي، حتى ممن اعتادوا على المبالغة في أدوارهم العادية، فعادة ما تكون مثل هذه الأعمال مغرية لأي ممثل ليتشنج ويعلو صوته وتنتفخ أوردته ويحمرّ وجهه ويرتفع حاجباه صعودا ونزولا ويشيح بيديه في كل الاتجاهات، ولكن على العكس تماما جاء التمثيل في جودر هادئا بسيطا وبالقدر الذي تتطلبه الحالة التي يعبر عنها كل مشهد. ولو أردت أن أتوقف عند كل الممثلين المتميزين في العمل لاحتجت سلسلة من المقالات، ولكني سأكتفي هنا بالبطل ياسر جلال الذي يؤدي شخصيتين مختلفتين تماما عن بعضهما البعض بهدوء وتمكن شديدين، ومازلت في انتظار رؤية كيف سيظهر عليه التطور والتأثر في شخصية شهريار كلما سمع أكثر في حكاية جودر، في حين تثبت نور عملا بعد آخر أنها وصلت إلى درجة عالية من النضج يجعلها تؤدي كل الأدوار التي تقوم بها باتقان شديد حتى ولو كانت تؤدي شخصية ملكة الشمعيين، بينما تخوض ياسمين رئيس التحدي الأكبر ربما في تاريخها بأدائها لشخصية شهرزاد لأنها مضطرة لتقبل مقارنتها بكل الجميلات اللاتي أدّين الشخصية من قبل، ولكنها حتى الآن تلعب الدور بهدوء تام وبغير تصنع أو مبالغة.
وينقلنا الحديث عن الأداء التمثيلي الهادئ غير المصطنع أو المبالغ فيه انسجاما مع كل عناصر العمل السابقة إلى صاحب الرؤية الشاملة لكل ذلك، المايسترو، المخرج إسلام خيري، والحقيقة أن شهادتي في إسلام مجروحة مهما ادعيت من موضوعية، ولكنه في "جودر" يثبت من جديد جدارته كواحد من أهم مخرجي الدراما في مصر حاليا، فما من فرصة أتيحت له إلا واستغلها أفضل استغلال على قدر الإمكانيات، وها هو حين توفرت له إمكانيات أعلى من كل ما قدم سابقا وصل بالعمل إلى القمة، فهو مخرج صاحب رؤية حقيقية، ولا يكتفي ببراعته في التكنيك بل هو شريك أساسي في كل عناصر العمل، يمارس الإخراج كما يقول الكتاب بأن المخرج هو رب العمل، فلا صورة ولا صوت ولا موسيقى ولا كتابة ولا تمثيل ولا أي عنصر إلا ويتماشى مع رؤيته التي وضعها للعمل من البداية، وهو يدير كل ذلك ببراعة وسلاسة ودون أن تطغى رؤيته على أي عنصر بما يمنع عنه الحرية الكاملة للإبداع.
إنني أستمتع حقا بمشاهدتي الحالية لجودر المصري، وأتمنى أن يتحقق توقعي بأن تزداد المتعة مع اشتعال الصراع وتصاعد الأحداث في الحلقات المقبلة.