لا شك أن الدراما والسينما الهوليوودية ساهمت بشكل كبير فى صناعة السردية الصهيونية القائمة على المظلومية طيلة القرن الماضى وحتى تلك اللحظة، متخذة مما فعله هتلر باليهود منهجية بكائية مستمرة ما جعل الكثير من شعوب العالم الغربى غير المطلعة على الحقيقة الكاملة تتبنى وجهة النظر تلك لتغض الطرف فيما بعد عن الفظائع التى ارتكبتها العصابات الصهيونية بداية من عام 1948 فى فلسطين لتحل محل أصحاب الأرض، ناهيك عن احتلال وطن بأكمله بخلق أسطورة كاذبة تسمى أرض الميعاد.
لذلك ليس غريبا أن ينال مسلسل مليحة اهتمام وسائل الإعلام الصهيونية، المنزعجة جدا من عرض مسلسل مصرى يتبنى السردية الفلسطينية الحقيقية وينحاز إليها، فى توقيت حرج للغاية داخل الكيان الصهيونى الذى تتداعى أسطورته أمام شعوب الغرب، لذلك كان توقيت إنتاج وعرض المسلسل والدولة المنتجة له- مصر- بمثابة وثيقة درامية مقاومة، وهذا ليس غريبا على مصر التى تملك القوة الناعمة المتمثلة فى فنها والقوة الصلبة المتميزة فى جيشها لتكون حامى حمى قضية أصحاب الأرض.
يروى مسلسل مليحة بشكل ذكى للغاية الحكاية فى «الأفان تتر» أو بداية الشارة، على لسان الجد- يجسد دوره سامى مغاورى- الذى يحكى لحفيده فى دقائق معدودة قصة احتلال فلسطين منذ البداية بشكل متسلسل فكل حلقة جديدة هناك حكاية تكتمل عبر التترات، ويحسب لصناع العمل والمخرج الكبير عمرو عرفة هذه الحيلة الفنية لتروى القصة بهذا الاختصار ليعرفها الجيل الجديد الذى ربما لا يدرك الكثير عن أهمية القضية.
وتوقيت عرض المسلسل يجعل رواية هذه القصة محل اهتمام من الكبار والصغار، وأتمنى لو تم عرض شارة البداية التى تحكى تلك القصة فى فيلم وثائقى قصير متتابع مستقل يتم إذاعته على قنوات المتحدة بعد انتهاء شهر رمضان.
ما إن تنتهى شارة البداية حتى نسمع أغنية أصحاب الأرض ممزوجة بـ الترويدة الفلسطينية بصوت الفنانة الكبيرة أصالة، وهى أغنية تفيض عذوبة وحميمية، وتصلح أيضا أن تكون عملا مستقلا بذاته، ينجح مسلسل مليحة قبل بدء الدراما فى صنع فيلم وثائقى وكليب فى تتر البداية يجعلك تدخل فى مود العمل كنوع من تمهيد الأجواء.
أجمل ما فى مسلسل مليحة إنه محكى فى شكل دراما اجتماعية تتناول أسرة المقدم أدهم «دياب» وحياته وعمله ضابطا فى الجيش المصرى بقوات حرس الحدود، وأسرة مليحة «سيرين خاص» الفتاة الفلسطينية التى تبدأ الأحداث وهى تعيش مع أسرتها والدها ووالدتها وجدها وجدتها فى ليبيا وذلك عقب موجة التهجير التى تلت انتفاضة الأقصى الثانية.
مشاهد المسلسل تدور داخل أروقة البيوت وبين دفء موائد الطعام وجلسات الشاى فى البلكونة، وبين حرس الحدود الساهرين على أمننا، حتى لو كان ذلك نظير بعدهم عن أسرهم وتعرضهم للاستشهاد أو الخطر.
ينقذ المقدم أدهم الشاعر عائلة مليحة من انفجار محقق، كاد أن يودى بالجميع، يدخل على أثره المستشفى مصابا هو وجدها أبو عمار، وعلى شاشة التلفزيون تتابع حنان والدة أدهم «ميرفت أمين» الحادث الإرهابى وتسمع باستشهاد 5 جنود من حرس الحدود فتسقط مغشيا عليها، لكن تعرف أن ابنها على قيد الحياة، ويعود للقاهرة فى زيارة قصيرة، وتشاء الظروف أن تأتى مليحة رفقة جدتها إلى بيت المقدم أدهم، الذى تكون أسرته تستعد لخطبة شقيقه على «أمير المصرى» لفريدة ابنة خاله صالح «أشرف زكى»، ونظرا لأن الأحداث تدور فى العام 2012 حيث كانت البلد على صفيح ساخن وهناك اشتباكات تحول دون وصول مليحة لبيت أقرباء لها لذلك تستبقيها والدة أدهم هى وجدتها حتى موعد خطبة على وفريدة فى الغد.
ما يعجبنى هنا حقا خلق دراما اجتماعية من المؤلفة رشا عزت الجزار لتناول قضية عروبية وقومية، مع خط درامى آخر على الجبهة وجدلهما معا فى ضفيرة درامية ملفوفة بعناية فائقة.
سعادتى بهذا العمل كبيرة وبمخرجه المتميز عمرو عرفة وحضور بهى للمخرج الكبير شريف عرفة وسيناريو حقيقى وممتع وموسيقى خالد حماد التى تناسب جلال العمل وهيبته، وديكور فوزى العوامرى الذى أصبح بمثابة شهادة ضمان على الجودة والمونتاج السلس لماجد مجدى ومينا فهيم والتصوير المميز لشريف النمر، وقبل ذلك الشكر للشئون المعنوية وقوات حرس الحدود على توفير الدعم ليخرج هذا المسلسل كبيرا وحقيقيا لمناصرة قضية حقيقية.
لذلك وجبت كل التحية لصناع هذا العمل المقاوم، ووجبت التحية للشركة المتحدة التى تبنت هذا العام مشاريع درامية ذات قضايا اجتماعية وسياسية وتنويرية هامة فى أكثر من عمل رائع.