رغم ثقل منجزه الفكري، وما تحمله حياته من أحداث درامية حقيقية، فإن رفاعة الطهطاوي لا يزال مظلومًا فنيًا، إذ لم تحظَ شخصيته بالحضور الذي يليق بمكانته في الدراما والسينما المصرية، على الرغم من تعدد المحاولات القليلة التي قُدمت لتجسيده على الشاشة أو الأثير، لكنها تبقى محدودة مقارنة بمسيرته الغنية، وفي لقاء أدرته في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية للفنان محمد رمضان سالته عن الشخصية التي يحلم بتجسيدها فقال : رفاعة الطهطاوي.
رفاعة الطهطاوي في الدراما حضور لا يليق بحجم الرمز، فبرغم الزخم الفكري والدرامي في حياة الطهطاوي، لم تقدم الأعمال الدرامية والسينمائية إلا عددًا محدودًا من المحاولات لتجسيده، ولم تقدم الجوانب الدرامية في حياته، ومنها مسلسل "رفاعة الطهطاوي عام " (1987) من إنتاج اتحاد الإذاعة والتليفزيون، جسد فيه الشخصية الفنان سمير البنا، وفي الإذاعة، جسد عبد الرحمن أبو زهرة شخصية الطهطاوي في عمل من كنوز البرنامج الخاص بماسبيرو، وقدم الشاعر فؤاد حداد والموسيقار سيد مكاوي حلقات غنائية عن الطهطاوي في برنامج شهير بعنوان "من نور الخيال وصنع الأجيال، وجسد الفنان حمدي غيث شخصية الطهطاوي في الجزءين الثاني والثالث من مسلسل "بوابة الحلواني"، الذي كتبه الراحل محفوظ عبد الرحمن وأخرجه إبراهيم الصحن.
غياب الطهطاوي عن الدراما المصرية بالشكل اللائق يعود إلى تعقيد شخصيته، التي تجمع بين البعد الفقهي، والوطني، والسياسي، والفلسفي، لكنها في الوقت نفسه شخصية درامية بامتياز، تحوي كل العناصر التي تثير الخيال، رحلة خارجية إلى الغرب، صراع داخلي بين الموروث والحداثة، بناء مؤسسات، وإشعاع ثقافي لا يزال مؤثرًا حتى اليوم.
وأذكر هنا واقعة مهمة جدا كتبت عنها مقالا وبحثا من قبل سوف انشر جزء منه في المقال وهو عن خطيئة رفاعة الطهطاوي، فهذا التنويري الذي دعا إلى تعليم الفتيات، وتنظيم الحقوق، وربط الشريعة بالعدالة الاجتماعية، وكان سابقًا لأفكاره وزمانه، ويمثل حتى اليوم أحد الأعمدة المؤسسة لفكرة الدولة المدنية الحديثة في مصر، لكنه أخطأ وتحول خطأه لخطيئة لأنه تعمد تشويه الرقص الشرقي المصري متأثرًا بصدمته الحضارية التي لازمته فور عودته من فرنسا، فقد قارن الطهطاوي ما بين الكثير مما رآه في بلاد الفرنجة كما كان يقال وقتها عن أوروبا، وبين ما عاشه في مصر، ففي كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" المنشور عام 1834م، احتفى الطهطاوي بفنون الرقص التي شاهدها في العاصمة الفرنسية وقارنها بالرقص في مصر مظهرًا تحيزًا واضحًا لفن الباليه، الذي اعتبره فنًا راقيًا، بينما ألصق صفة "العهر" بالرقص في مصر، وصور الطهطاوي راقصة الباليه، وقد انفلتت من أسر قوانين الجاذبية الأرضية، بينما تبدو الراقصة الشرقية، كامرأة غاصت قدماها في الطين وهي تحاول في يأس أن تنزع قدمًا فتغوص القدم الأخرى.
ربط رفاعة الطهطاوي الرقص بالغواية، وهنا خطيئته المتعمدة ولأن الرقص يتخطى منطق الغواية، ليحدث إشكالًا فكريًا وإنسانيًا من الصعب فكه، فيصبح الرقص منفلتًا عن كل الأطر المحددة والمحسومة، وهذا الموضوع الذي اثرته في مقال اعتقد أنه مادة درامية ثرية داخل المسلسل ، واعتقد أننا الآن بحاجة لعمل درامي في زمن يُعيد فيه العرب التفكير في النهضة والتحديث، فيستحق رفاعة الطهطاوي أن يُعاد تقديمه للأجيال الجديدة، لا فقط في المناهج، بل على المسرح والشاشة، بوصفه مؤسسًا للفكر المدني في مصر، ورائدًا للتنوير لا يزال يضيء لنا الطريق، واليوم هو ذكرى رحيل رفاعة رافع الطهطاوي، الذي غادر عالمنا في مثل هذا اليوم من عام 1873.