في تاريخ الأداء التمثيلي العربي، قلّما اقترن الصوت بالفلسفة، وقلّما وُضع الأداء في مصاف التأمل الجمالي العميق، كما اقترن ذلك بحضور الفنانة زوزو نبيل، فهي ليست مجرد ممثلة برزت في أدوار الأم القاسية أو المرأة المتسلطة، بل كانت صاحبة مشروع تعبيري متكامل، تُجسِّد من خلاله الشخصية بالصوت قبل الجسد، وبالنبرة قبل الحركة.
إنّ بلاغة صوتها كما في دورها الأسطوري بصوت شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" لم تكن مجرد أداء صوتي سردي، بل كانت فلسفة حكي تُعيد تعريف العلاقة بين الفنان والمتلقي، وتُؤسس لوعي مختلف بدور الممثلة داخل الدراما العربية، وعبر نبرتها، استطاعت أن تنقل الهشاشة والقوة، الخوف والدهاء، الأمومة والافتراس، في توازن نادر لا يصدر إلا عن وعي بالتمثيل كفعل وجودي.
ومن هنا، فإن قراءة حضور زوزو نبيل ليست مجرد عودة إلى سيرة فنانة مخضرمة، بل هي محاولة لفهم التمثيل ذاته كبلاغة فلسفية تتجاوز حدود الدور إلى عمق الذات.
اليوم ذكري ميلادها فهي من مواليد 6 يوليو عام 1918، ومنذ بداياتها على خشبة المسرح، حين التحقت بفرقة مختار عثمان ثم انتقلت إلى فرقة يوسف وهبي، وحتى آخر ظهور سينمائي لها قبل رحيلها، ظلّت زوزو نبيل رمزًا للمرأة التي تسكن الشخصيات لا تؤديها، وتحول النص المكتوب إلى روح نابضة، وكان أول ظهور لها في السينما من خلال فيلم "الدكتور" عام 1937، لكن بدايتها الأبرز كانت في فيلم "سلامة" إلى جانب أم كلثوم، حين أدت دور الصديقة، وهو الدور الذي أعادت تقديمه لاحقًا مع شادية في "لحن الوفاء"، لتؤسس نمطًا خاصًا في تجسيد الشخصيات المساندة ذات الظلال النفسية والاجتماعية المركبة.
برزت قدراتها التمثيلية في أداء الأدوار الصعبة، وخصوصًا تلك التي تحمل وجوهًا متعددة للمرأة: الأم المتسلطة، العجوز المتصابية، أو الزوجة القاسية، غير أنها كانت قادرة دائمًا على إدخال بعد إنساني يجعل هذه القسوة مفهومة، بل ومبررة أحيانًا، واستطاعت عبر عشرات الأفلام أن تفرض طبقة أداء خاصة بها، لا تشبه أحدًا، ولا تُقلد، وهو ما دفع مخرجين كبارًا مثل حسن الإمام إلى الاعتماد عليها في أكثر من 12 فيلمًا، وغيرها من الأعمال التي شاركت فيها إلى جانب أسماء عملاقة كمحمود المليجي، وشكّلت معه ثنائيًا دراميًا مدهشًا في توازن حضورهما وقوة اشتباكهما العاطفي والدرامي على الشاشة.
لكن الأداء الأكثر رسوخًا في ذاكرة الجمهور يبقى دورها الصوتي في مسلسل "ألف ليلة وليلة"، حين جسدت بصوتها شخصية شهرزاد، وبدأت كل حكاية بعبارتها الشهيرة "بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد..."، وفي هذا الدور، تجلى ما يمكن اعتباره ذروة موهبة زوزو نبيل الصوتية والوجدانية، فأدائها لم يكن مجرد إلقاء، بل كان غزلاً درامياً بصوت مشحون بالعاطفة، مدوزن بالإيقاع، تُدخِل من خلاله المستمع إلى عالم سحري يمزج بين الحكاية والواقع، بين الرغبة في النجاة والقدرة على الإقناع، وكانت تضيف إلى كل حكاية طبقة من التشويق والتوتر والدهشة، تجعل من الصوت وحده أداة كافية لبناء عوالم كاملة دون حاجة لصورة.
لقد استطاعت زوزو نبيل أن تخلق شخصية شهرزاد ككيان حي، صاخب بالحكمة والدهاء والحنان، من خلال خامة صوتها وحدها، ما جعل كثيرين لا يتخيلون شهرزاد بوجه آخر غير وجه زوزو نبيل، رغم أن صوتها فقط هو الذي حضر، وفي مسيرتها المهنية، لم تكتفِ بالتمثيل بل أسهمت أيضًا في الإدارة الثقافية والتدريس، فقد عملت رقيبة في المصنفات الفنية، ثم تولّت إدارة المسرح الشعبي، وتولت مناصب في مؤسسة المسرح، وكانت أستاذة لمادة الإلقاء في معهد السينما والثقافة الجماهيرية، بجوار الفنان عبد الوارث عسر، وتُعد تجربتها الإدارية واحدة من أكثر التجارب ثراء في الجمع بين الموهبة الفنية والقدرة المؤسسية، وحتى عندما تقدم بها العمر، لم تتخل عن عشقها للفن، بل قالت ذات مرة إن التمثيل يجعلها أصغر بعشر سنوات، وإن اعتزلت ستكبر عشر سنوات، لذلك فضلت أن تظل في الخامسة والستين فنيًا، بدلًا من الخامسة والثمانين زمنيًا.
حياتها الشخصية لم تكن أقل إثارة من أدوارها، فقد تزوجت مرتين، وكان ابنها الوحيد، نبيل، ضابطًا في الجيش المصري، واستُشهد في حرب أكتوبر 1973، وهو الجرح الأكبر في حياتها الذي لم تفصح عنه كثيرًا، كما عُرفت بعلاقتها الودية النادرة بضرتها، التي كانت توصف بأنها أكثر من صديقة أو أخت، علاقة تجاوزت الغيرة والأنانية، وعكست نضجًا عاطفيًا نادرًا في الحياة الشخصية لفنانة عاشت في دائرة الضوء، وفي مشهد إنساني موازٍ لأدوارها، رفضت أمها دخولها المجال الفني خوفًا من أن يمسها الشك أو تلطخها الشائعات، لكنها رضخت أمام إصرارها بعد أن أقسمت زوزو على أن تظل مثالًا للشرف والاستقامة، وهو قسم حافظت عليه حتى وفاتها.
في سنواتها الأخيرة، واصلت العمل رغم تقدم العمر وتراجع الصحة، وكان فيلم "المرشد" عام 1989 بداية عودتها بعد غياب، تلاه ظهورها الأخير في فيلم "رجل مهم جدًا" مع فاروق الفيشاوي، لكنها توفيت قبل عرضه بخمسة أشهر، تاركة خلفها إرثًا فنيًا لا يُقدّر بثمن.
نالت زوزو نبيل تكريمات مستحقة من مهرجانات الإسكندرية والقاهرة السينمائيين، رغم أنها لم تستطع الحضور في آخر تكريم بسبب المرض، وتسلمت الجائزة عنها زوجة ابنها، في لحظة وداع فني رسمي، تليق بممثلة آثرت أن تكون على المسرح حتى اللحظة الأخيرة.
زوزو نبيل، بكل ما قدمته، تظل واحدة من ركائز التمثيل النسائي في العالم العربي، ليس فقط لحضورها الفني، بل لقدرتها النادرة على تحويل القسوة إلى صدق، والحكاية إلى واقع، والصوت إلى حياة.
زوزو نبيل ، فاروق الفيشاوي ، الفنانة زوزو نبيل ، عيد ميلاد زوزو ، لحن الوفاء ، شهرزاد ، ألف ليلة وليلة